عرفت الدراسات التاريخية و العلوم الإنسانية عموما  تطورا كبيرا في القرن التاسع عشر ، و أصبحت تهتم بالإنسان بصفته كائنا اجتماعيا.  و مع انحسار دور الدين و تقدم العلوم الطبيعية في الغرب برز لدى المختصين في العلوم الإنسانية  تساؤلا يتعلق بإمكانية  تطبيق منهج العلوم الطبيعية عند إنجاز بحوثهم و دراساتهم، و هكذا طرحت  قضية علمية التاريخ ،  و ظهر حولها توجهان ، توجه ينفي عنه صفة العلمية لأن العلم يفيد المعرفة العلمية الدقيقة و هذا متعذر في التاريخ، و يصنف هذا التوجه ضمن المدرسة التاريخانية أو التاريخية. و توجه ثان يرى إمكانية  تحقيق مثل هذه المعرفة بتطبيق منهج العلوم الطبيعية على التاريخ،  و يطلق على هذا التوجه اسم المدرسة الوضعية أو الوضعانية.

الأصول النظرية للمدرسة الوضعية : لا يمكن فهم المدرسة الوضعية دون الرجوع إلى أصولها النظرية و المعرفية، و علاقتها بالمذهب الوضعي. 

( 1798-1857)  ، فهو صاحب النظرية الوضعية التي تعتبر العامل الثقافي المحرك الأساسي للتاريخ البشري ، و قد تبنى تحقيبا تاريخيا يتماشى و هذه القاعدة  فتاريخ الإنسان هو تاريخ المعرفة و الثقافة، و قد قسمه إلى ثلاث مراحل : 1 المرحلة اللاهوتية أو الوهمية و التي تتميز بالميل إلى المعرفة المطلقة و ربط كل الظواهر بعناصر ما بعد الطبيعة التي تعتبر  بمثابة الأسباب الأولى التي تتدخل بشكل مباشر لإنتاج الظواهر   2 المرحلة الميتافيزيقية حين تم الاعتقاد بوجود  قوى غامضة تقف وراء  كل الظواهر 3 المرحلة الوضعية l’étape positive رواد المدرسة الوضعية : سيطرت هذه المدرسة على الدراسات التاريخية منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى بداية القرن العشرين ، و عرفت انتشارا واسعا في كل من ألمانيا و فرنسا ، و من أبرز المؤرخين الوضعيين في ألمانيا "تيودور مومسن Theodor Mommsen ( 1795-1886 )، و في فرنسا أرنست رينان Ernest Renan ( ت 1922) و شارل سانيوبوس Charles Seignobos ( ت 1929 ) و غابريال مونود"  Gabriel Monod ( ت 1933 )

( ت 1857) الذي أعطى أهمية كبيرة للعامل الثقافي في صنع التاريخ [ التيمومي 87] و يرى أن المعرفة الإنسانية مرت بثلاث مراحل : اللاهوتية – الميتافيزيقية – الوضعية Positive

- على المستوى السياسي عرفت أوروبا و فرنسا خاصة أحداثا سياسية انجرت عنها تحولات عميقة، خاصة انهزام فرنسا أمام ألمانيا سنة 1870، حيث صاحب ذلك إيمان بأن الأحداث التاريخية لا تخضع للعناية الإلهية و لكن لإرادة الإنسان الحرة. 

التي تعني الإيمان المطلق بقدرة العلوم الطبيعية على حل كل القضايا، و قد سادت العلموية عقب الإنجازات التي  حققتها  هذه العلوم ،  التي استطاعت أن تفرض نفسها بفضل منهجها العلمي القائم على التجريب و المشاهدة، و  الذي مكن من الوصول إلى حقائق ثابتة، فساد الاعتقاد بأن هذا المنهج هو الوسيلة الوحيدة للوصول إلى المعرفة ، حينها ظهر توجه يدعو إلى تطبيق منهج العلوم الطبيعية على العلوم الإنسانية  لترتقي إلى مستوى العلوم الطبيعية ، و هو ما يعني إهمال الفلسفة و الميتافيزيقا و كل تفكير قائم على التجريد، حتى يكون الإنسان و المجتمع موضوع دراسة علمية تماما مثلما هو الحال بالنسبة للظواهر الفيزيائية و الرياضية. ظهرت هذه النزعة بين المؤرخين أيضا حيث سعوا إلى وضع منهج تاريخي مضبوط اقتداء بمنهج العلوم الطبيعية، و شكل هذا بداية لظهور المدرسة التاريخية المنهجية أو الوضعانية.

لسانيوبس و الصادر سنة 1901

 - يقول المؤرخون الوضعيون أن التجربة التي لا يمكن أن نقوم بها في التاريخ ليست شرطا أساسيا في العلم فهناك علوم تستند إلى الملاحظة من غير تجربة و رغم ذلك توصل العلماء فيها إلى وضع قوانين كلية تمكن من التنبؤ بالظواهر الفلكية و المؤرخ إن لم يكن قادرا على إحياء الماضي فإنه قادر على أن يلاحظه من خال الوثائق و الآثار.

) و التوجه نحو دراسة  التاريخ الشامخ (le grand Histoire رغم الإضافات التي قدمتها المدرسة المنهجية أو الوضعية في مجال الكتابة التاريخية و المساهمة في الارتقاء بها ، فإنها لم تخل من عيوب و نقائص ، جعلت النقاد يسجلون على  المؤرخ الوضعي عدة ملاحظات و مآخذ:   

  الذي يعتقد أنه من واجب التاريخ أن يساهم في إيجاد مواطنين صالحين، و جنود أوفياء لبلدهم.

( ت 1935) بأنه أسير ثلاثة أصنام : السياسة و الفرد و الكرونولوجيا. 

1876-1962 .