Informations du cours
يعد مساق الحديث التحليلي من أهم المساقات المقررة في تكوين طالب علوم أصول الدين، لارتباطه بالسنة النبوية الأصل الثاني في التشريع. مجموعة من الأحاديث المنتقاة من أبواب متنوعة تدرس من طرف الطلاب دراسة سندية و متنية .
بغرض تحقيق الأهداف التالية:
تحضر الطالب للتوجه نحو تخصص الكتاب والسنة .
تعميق المعارف التي كانت لدى الطالب في علم الحديث والتي حصلها في أطوار التعليم السابقة.
معرفة مناهج المحدثين في تحليل وشرح السنة النبوية .
كسب ملكة التحليل و التفكير والنظر في حديث رسول الله .
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه
مقدمة في مقياس الحديث التحليلي.
1- أهمية الاشتغال بالسنة النبوية.
- شرف العلم من شرف موضوعه وموضوعه سنة رسول الله. فهو تعبد.
- حث الرسول الناس على تبليغ سنته: نضّر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها فبلغها كما سمعها فرب مبلغ اوعى من سامع.
- السنة مصدر من مصادر التشريع في كل مسألة تقريبا فوجب على طالب العلم الشرعي الإلمام بهذا المصدر
- السنة مدخل للتأسي والاقتداء برسول الله
2- أهمية دراسة السنة النبوية وعلومها.
- هو سبيل للدفاع عن رسول الله ضد من يشكك في نبوته ورسالته لاسيما في هذا العصر (المستشرقين، الحداثيين وشبهاتهم حول علماء الحديث وحول الأسانيد).
- الوقوف على جهود العلماء في تبليغ سنة رسول الله، والجهل بذلك سبب للتنقيص من السنة.
- الفهم السليم للسنة ومعرفة المقبول من المردود. وبالتالي حسن الاستدلال بها إما في العقيدة أو الفقه.
3- تعريف الحديث التحليلي: هو أن يركز الباحث على حديث واحد و يقوم بتخريجه وبيان درجته قبولا وردا، وجمع الألفاظ التي روي بها قدر الطاقة ، وخصوصا التأليف بين الألفاظ التي تبدو متعارضة ، وبيان معاني المفردات ، والبلاغة والإعراب لما لذلك من دور في ابراز المعنى وتوضيحه. وايضا سبب الورود إن وجد لمعرفة اللفظ ما يراد به ، وبيان فقهه في ضوء النصوص الأخرى مع بيان فضله و منزلته ، ليعرج بعدها إلى آخر محطة استخراج الفوائد و الأحكام الفقهية و العقدية
4- خطوات تحليل الحديث:
أولا: تخريج الحديث بالرجوع إلى مظانه من كتب الحديث بدءً بالصحيحين ، ثم السنن الأربعة ، فموطأ مالك، فمسند الإمام أحمد .. ثم المصنفات و المستدركات و الجامع بين الصحيحين للحميدي ، وجامع الأصول، و مشكاة المصابيح للخطيب التبريزي.. و خاصة المصنفات لما تحويه من أقوال الصحابة ، و فتاوى التابعين ، و فتاوى أتباع التابعين أحيانا .
ثانيا :بيان درجة الحديث صحة و ضعفا ، وذلك بالرجوع إلى كتب التخريج المشهورة ،كتخريج أحاديث المهذب للحازمي، ونصب الراية لأحاديث الهداية للزيلعي، والبدر المنير لابن الملقن، والتلخيص الحبير لابن حجر العسقلاني...إلخ.
ثالثا :ترجمة لرواة الحديث مع ذكر مرتبته من الجرح والتعديل بشهادة علماء هذا الفن و يُستحن الرجوع إلى كتب الجرح و التعديل؛ مع ذكر أسماء شيوخ رواة الحديث و أسماء بعض تلاميذته، و في الأخير ذكر تاريخ وفياتهم..
رابعا :بيان تعدد روايات الحديث و اختلاف ألفاظه.
خامسا :ذكر نكت الحديث و لطائفه الإسنادية.
سادسا: بيان سبب ورود الحديث إن كان له سبب مع التحقق من ذلك .ومعرفة سبب الورود يعين على فهم مراده ؛ فإن العلم بالسبب يُورِث العلم بالمُسبب.
سابعا :ذكر أهمية الحديث و منزلته ، و عظم شأنه ، بسرد أقوال العلماء الدالة على ذلك.
ثامنا :بيان لغة الحديث من الناحية النحوية و البلاغية
تاسعا: شرح الحديث شرحا إجماليا من خلال بيان مقصده الأساسي، و يختلف هذا الشرح من حديث إلى آخر حسب خصوصية كل حديث .
عاشرا :ذكر فوائد الحديث، و ما يستنبط منه من أحكام وعبر.
المحاضرة الأولى: الحديث الأول: الأعمال بالنيات.
أ)- نصّ الحديث:
قال البخاري: حدثنا الحميدي عبد الله بن الزبير قال: حدثنا سفيان قال: حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري قال: أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب على المنبر قال: سمعت رسول الله يقول: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه».
ب)- تخريج الحديث:
أخرجه البخاري، كتاب الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ، رقم 01: 1/6.
وأخرجه أبو داود، كتاب الطلاق، باب فيما عنى به الطلاق والنيات، رقم 2203: 2/230.
قال: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان حدثني يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة بن وقاص الليثي قال سمعت عمر بن الخطاب بنحوه.
وأخرجه ابن ماجة، كتاب الزهد، باب النية، رقم 4227: 2/1413.
قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يزيد بن هارون، ح وحدثنا محمد بن رمح أنبأنا الليث بن سعد قالا: أنبأنا يحيى بن سعيد بن إبراهيم التيمي أخبره أنه سمع علقمة بن وقاص أنه سمع عمر بن الخطاب فذكره.
وقد ورد الحديث بلفظ: «إنما الأعمال بالنية». أخرجه النسائي، كتاب الطهارة، باب النية في الوضوء، رقم 75: 1/58. قال: أخبرنا يحيى بن حبيب بن عربي عن حماد والحرث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع عن ابن القاسم حدثني مالك ح وأخبرنا سليمان بن منصور قال: أنبأنا عبد الله بن المبارك واللفظ له عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن علقمة بن وقاص عن عمر بن الخطاب. فذكره.
وأخرجه البخاري، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا عبد الوهاب قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: أخبرني محمد بن إبراهيم أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب يقول سمعت رسول الله ، وذكره.
وأخرجه مسلم: كتاب الإمارة، باب قوله : إنما الأعمال بالنية، قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب حدثنا مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن علقمة بن وقاص عن عمر بن الخطاب...، وذكره.
طرق أخرى للحديث لم تثبت.
قال الدارقطني: "وَرَوَى هَذا الحَدِيث مالِكُ بن أَنَسٍ، واختُلِف عَنهُ، فَرَواهُ عَبد المَجِيدِ بن عَبدِ العَزِيزِ بنِ أَبِي رَوّادٍ، عَن مالِكٍ، عَن زَيدِ بنِ أَسلَم، عَن عَطاءِ بنِ يَسارٍ، عَن أَبِي سَعِيدٍ الخُدرِيِّ. وَلَم يُتابَع عَلَيهِ. وَأَمّا أَصحابُ مالِكٍ الحُفّاظُ عَنهُ، فَرَوَوهُ عَن مالِكٍ، عَن يَحيَى بنِ سَعِيدٍ، عَن مُحَمدِ بنِ إِبراهِيم، عَن عَلقَمَة بنِ وقّاصٍ، عَن عُمَر. وَهُو الصَّوابُ".
وقال ابن أبي حاتم: "وسُئِل أبِي عَن حدِيثٍ ؛ رواهُ نُوحُ بنُ حبِيبٍ، عن عَبدِ المجِيدِ بنِ عَبدِ العزِيزِ بنِ أبِي روّادٍ، عن مالِكِ بنِ أنسٍ، عن زيدِ بنِ أسلم، عن عطاءِ بنِ يسارٍ، عن أبِي سعِيدٍ الخُدرِيِّ، عنِ النّبِيِّ : «إِنّما الأعمالُ بِالنِّيّاتِ». قال أبِي: هذا حدِيثٌ باطِل، لا أصل لهُ، إِنّما هُو مالِكٌ، عن يحيى بنِ سعِيدٍ، عن مُحمّدِ بنِ إِبراهِيم التّيمِيِّ، عن علقمة بنِ وقّاصٍ، عن عُمر، عنِ النّبِيِّ ".
ج)- ترجمة الرواة:
الحميدي: عبد الله بن الزبير بن عيسى القرشي الأسدي الحميدي المكي أبو بكر ثقة حافظ فقيه، أجل أصحاب بن عيينة، من العاشرة مات بمكة سنة تسع عشرة وقيل بعدها، قال الحاكم: كان البخاري إذا وجد الحديث عند الحميدي لا يعدوه إلى غيره، روى له البخاري ومسلم وأصحاب السنن.
سفيان بن عيينة: بن أبي عمران ميمون الهلالي أبو محمد الكوفي ثم المكي، ثقة حافظ فقيه إمام حجة، إلا أنه تغير حفظه بأخرة، وكان ربما دلس، لكن عن الثقات، من رؤوس الطبقة الثامنة، وكان أثبت الناس في عمرو بن دينار، مات في رجب سنة ثمان وتسعين وله إحدى وتسعون سنة، روى له الجماعة.
يحيى بن سعيد: بن قيس الأنصاري المدني أبو سعيد القاضي، ثقة ثبت، من الخامسة، مات سنة أربع وأربعين أو بعدها، روى له الجماعة.
محمد بن إبراهيم: بن الحارث بن خالد التيمي، أبو عبد الله المدني، ثقة له أفراد، من الرابعة، مات سنة عشرين على الصحيح، روى له الجماعة.
علقمة بن وقاص: بتشديد القاف الليثي المدني، ثقة ثبت، من الثانية، أخطأ من زعم أن له صحبة، وقيل: إنه ولد في عهد النبي ، مات في خلافة عبد الملك، روى له الجماعة.
عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد: بفتح الراء وتشديد الواو، صدوق يخطئ، وكان مرجئا، أفرط بن حبان فقال: متروك، من التاسعة، مات سنة ست ومائتين، روى له مسلم وأصحاب السنن.
د)- تحليل الحديث:
1- سبب ورود الحديث:
قيل: ورد الحديث في رجل يقال له مُهَاجِر أُمّ قَيْس، وقصته رَوَاهَا سَعِيد مِنْ مَنْصُور قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَنْ الْأَعْمَش عَنْ شَقِيق عَنْ عَبْد اللَّه - هُوَ اِبْن مَسْعُود - قَالَ: مَنْ هَاجَرَ يَبْتَغِي شَيْئًا فَإِنَّمَا لَهُ ذَلِكَ, هَاجَرَ رَجُل لِيَتَزَوَّج اِمْرَأَة يُقَال لَهَا أُمّ قَيْس فَكَانَ يُقَال لَهُ مُهَاجِر أُمّ قَيْس.
2- فضل الحديث:
قال المباركفوري: "اتفق عبد الرحمن بن مهدي والشافعي فيما نقله البويطي عنه وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني وأبو داود والترمذي والدارقطني وحمزة الكناني على أنه ثلث الاسلام، ومنهم من قال: ربعه، واختلفوا في تعيين الباقي. وقال ابن مهدي أيضا: يدخل في ثلاثين بابا من العلم. وقال الشافعي: يدخل في سبعين بابا. ويحتمل أن يريد بهذا العدد المبالغة. وقال عبد الرحمن بن مهدي أيضا: ينبغي أن يجعل هذا الحديث رأس كل باب. ووجه البيهقي كونه ثلث العلم بأن كسب العبد يقع بقلبه ولسانه وجوارحه، فالنية أحد أقسامها الثلاثة، وأرجحها، لأنها قد تكون عبادة مستقلة وغيرها يحتاج إليها، ومن ثم ورد: نية المؤمن خير من عمله. فإذا نظرت إليها كانت خير الأمرين. وكلام الامام أحمد يدل على أنه أراد بكونه ثلث العلم أنه أحد القواعد الثلاث التي ترد إليها جميع الأحكام عنده. وهي هذا، ومن عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد، والحلال بين والحرام بين...".
3- الشرح اللغوي:
- قوله: «إنما الأعمال بالنيات»، هذا التركيب يفيد الحصر عند المحققين، واختلف في وجه إفادته فقيل: لأن الأعمال جمع محلى بالألف واللام مفيد للاستغراق، وهو مستلزم للقصر، لأن معناه كل عمل بنية فلا عمل إلا بنية.
- الْأَعْمَال: تَقْتَضِي عَامِلَيْنِ, وَالتَّقْدِير: الْأَعْمَال الصَّادِرَة مِنْ الْمُكَلَّفِينَ, والْمُرَاد بِالْأَعْمَالِ أَعْمَال الْعِبَادَة وَهِيَ لَا تَصِحّ مِنْ الْكَافِر وَإِنْ كَانَ مُخَاطَبًا بِهَا مُعَاقَبًا عَلَى تَرْكهَا وَلَا يُرَدّ الْعِتْق وَالصَّدَقَة لِأَنَّهُمَا بِدَلِيلٍ آخَر.
- قَوْله: (بِالنِّيَّاتِ) الْبَاء لِلْمُصَاحَبَةِ, وَيُحْتَمَل أَنْ تَكُون لِلسَّبَبِيَّةِ بِمَعْنَى أَنَّهَا مُقَوِّمَة لِلْعَمَلِ فَكَأَنَّهَا سَبَب فِي إِيجَاده, قَالَ النَّوَوِيّ: النِّيَّة الْقَصْد, وَهِيَ عَزِيمَة الْقَلْب. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاء هَلْ هِيَ رُكْن أَوْ شَرْط ؟ وَالْمُرَجَّح أَنَّ إِيجَادهَا ذِكْرًا فِي أَوَّل الْعَمَل رُكْن, وَاسْتِصْحَابهَا حُكْمًا بِمَعْنَى أَنْ لَا يَأْتِي بِمُنَافٍ شَرْعًا شَرْطٌ. وَلَا بُدّ مِنْ مَحْذُوف يَتَعَلَّق بِهِ الْجَارّ وَالْمَجْرُور, فَقِيلَ تُعْتَبَر وَقِيلَ تُكَمِّل وَقِيلَ تَصِحّ وَقِيلَ تَحْصُل وَقِيلَ تَسْتَقِرّ .وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ: النِّيَّة عِبَارَة عَنْ اِنْبِعَاث الْقَلْب نَحْو مَا يَرَاهُ مُوَافِقًا لِغَرَضٍ مِنْ جَلْب نَفْع أَوْ دَفْع ضُرّ حَالًا أَوْ مَآلًا, وَالشَّرْع خَصَّصَهُ بِالْإِرَادَةِ الْمُتَوَجِّهَة نَحْو الْفِعْل لِابْتِغَاءِ رِضَاء اللَّه وَامْتِثَال حُكْمه. وَالنِّيَّة فِي الْحَدِيث مَحْمُولَة عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيّ لِيَحْسُن تَطْبِيقه عَلَى مَا بَعْده وَتَقْسِيمه أَحْوَال الْمُهَاجِر, فَإِنَّهُ تَفْصِيل لِمَا أُجْمِلَ.
- (وإنما لكل امرئ ما نوى): قَالَ اِبْن عَبْد السَّلَام: "الْجُمْلَة الْأُولَى لِبَيَانِ مَا يُعْتَبَر مِنْ الْأَعْمَال, وَالثَّانِيَة لِبَيَانِ مَا يَتَرَتَّب عَلَيْهَا. وَأَفَادَ أَنَّ النِّيَّة إِنَّمَا تُشْتَرَط فِي الْعِبَادَة الَّتِي لَا تَتَمَيَّز بِنَفْسِهَا, وَأَمَّا مَا يَتَمَيَّز بِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَنْصَرِف بِصُورَتِهِ إِلَى مَا وُضِعَ لَهُ كَالْأَذْكَارِ وَالْأَدْعِيَة وَالتِّلَاوَة لِأَنَّهَا لَا تَتَرَدَّد بَيْن الْعِبَادَة وَالْعَادَة".
- قَوْله: ( هِجْرَته) الْهِجْرَة: التَّرْك, وَالْهِجْرَة إِلَى الشَّيْء: الِانْتِقَال إِلَيْهِ عَنْ غَيْره . وَفِي الشَّرْع: تَرْك مَا نَهَى اللَّه عَنْهُ وَقَدْ وَقَعَتْ فِي الْإِسْلَام عَلَى وَجْهَيْنِ: الْأَوَّل الِانْتِقَال مِنْ دَار الْخَوْف إِلَى دَار الْأَمْن كَمَا فِي هِجْرَتَيْ الْحَبَشَة وَابْتِدَاء الْهِجْرَة مِنْ مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة , الثَّانِي الْهِجْرَة مِنْ دَار الْكُفْر إِلَى دَار الْإِيمَان وَذَلِكَ بَعْد أَنْ اِسْتَقَرَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ وَهَاجَرَ إِلَيْهِ مَنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَكَانَتْ الْهِجْرَة إِذْ ذَاكَ تَخْتَصّ بِالِانْتِقَالِ إِلَى الْمَدِينَة , إِلَى أَنْ فُتِحَتْ مَكَّة فَانْقَطَعَ مِنْ الِاخْتِصَاص , وَبَقِيَ عُمُوم الِانْتِقَال مِنْ دَار الْكُفْر لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ بَاقِيًا .
- قوْله: (إِلَى دُنْيَا) بِضَمِّ الدَّال, وَحَكَى اِبْن قُتَيْبَة كَسْرهَا , وَهِيَ فُعْلَى مِنْ الدُّنُوّ أَيْ: الْقُرْب , سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِسَبْقِهَا لِلْأُخْرَى . وَقِيلَ: سُمِّيَتْ دُنْيَا لِدُنُوِّهَا إِلَى الزَّوَال .
- قَوْله: (يُصِيبهَا) أَيْ يُحَصِّلهَا ; لِأَنَّ تَحْصِيلهَا كَإِصَابَةِ الْغَرَض بِالسَّهْمِ بِجَامِعِ حُصُول الْمَقْصُود .
- قَوْله: (فَهِجْرَته إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ) يُحْتَمَل أَنْ يَكُون ذَكَرَهُ بِالضَّمِيرِ لِيَتَنَاوَل مَا ذُكِرَ مِنْ الْمَرْأَة وَغَيْرهَا, وَإِنَّمَا أَبْرَزَ الضَّمِير فِي الْجُمْلَة الَّتِي قَبْلهَا وَهِيَ الْمَحْذُوفَة لِقَصْدِ الِالْتِذَاذ بِذِكْرِ اللَّه وَرَسُوله وَعِظَم شَأْنهمَا , بِخِلَافِ الدُّنْيَا وَالْمَرْأَة فَإِنَّ السِّيَاق يُشْعِر بِالْحَثِّ عَلَى الْإِعْرَاض عَنْهُمَا ... وَإِنَّمَا أَشْعَرَ السِّيَاق بِذَمِّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ طَلَبَ الْمَرْأَة بِصُورَةِ الْهِجْرَة الْخَالِصَة , فَأَمَّا مَنْ طَلَبَهَا مَضْمُومَة إِلَى الْهِجْرَة فَإِنَّهُ يُثَاب عَلَى قَصْد الْهِجْرَة لَكِنْ دُون ثَوَاب مَنْ أَخْلَصَ.
4- الأحكام المستفادة.
- اخْتَارَ الْغَزَالِيّ فِيمَا يَتَعَلَّق بِالثَّوَابِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْقَصْد الدُّنْيَوِيّ هُوَ الْأَغْلَب لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَجْر , أَوْ الدِّينِيّ أُجِرَ بِقَدْرِهِ, وَإِنْ تَسَاوَيَا فَتَرَدَّدَ الْقَصْد بَيْن الشَّيْئَيْنِ فَلَا أَجْر. وَأَمَّا إِذَا نَوَى الْعِبَادَة وَخَالَطَهَا بِشَيْءٍ مِمَّا يُغَايِر الْإِخْلَاص. فَقَدْ نَقَلَ أَبُو جَعْفَر بْن جَرِير الطَّبَرِيّ عَنْ جُمْهُور السَّلَف أَنَّ الِاعْتِبَار بِالِابْتِدَاءِ , فَإِنْ كَانَ اِبْتِدَاؤُهُ لِلَّهِ خَالِصًا لَمْ يَضُرَّهُ مَا عَرَضَ لَهُ بَعْد ذَلِكَ مِنْ إِعْجَاب أَوْ غَيْره.
- وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيث عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز الْإِقْدَام عَلَى الْعَمَل قَبْل مَعْرِفَة الْحُكْم ; لِأَنَّ فِيهِ أَنَّ الْعَمَل يَكُون مُنْتَفِيًا إِذَا خَلَا عَنْ النِّيَّة , وَلَا يَصِحّ نِيَّة فِعْل الشَّيْء إِلَّا بَعْد مَعْرِفَة الْحُكْم
- وَعَلَى أَنَّ الْغَافِل لَا تَكْلِيف عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْقَصْد يَسْتَلْزِم الْعِلْم بِالْمَقْصُودِ وَالْغَافِل غَيْر قَاصِد.
- وَعَلَى أَنَّ مَنْ صَامَ تَطَوُّعًا بِنِيَّةٍ قَبْل الزَّوَال أَنْ لَا يُحْسَبَ لَهُ إِلَّا مِنْ وَقْت النِّيَّة وَهُوَ مُقْتَضَى الْحَدِيث, لَكِنْ تَمَسَّكَ مَنْ قَالَ بِانْعِطَافِهَا بِدَلِيلٍ آخَر , وَنَظِيره حَدِيث " مَنْ أَدْرَكَ مِنْ الصَّلَاة رَكْعَة فَقَدْ أَدْرَكَهَا " أَيْ: أَدْرَكَ فَضِيلَة الْجَمَاعَة أَوْ الْوَقْت , وَذَلِكَ بِالِانْعِطَافِ الَّذِي اِقْتَضَاهُ فَضْل اللَّه تَعَالَى
- وَعَلَى أَنَّ الْوَاحِد الثِّقَة إِذَا كَانَ فِي مَجْلِس جَمَاعَة ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ ذَلِكَ الْمَجْلِس شَيْئًا لَا يُمْكِن غَفْلَتهمْ عَنْهُ وَلَمْ يَذْكُرهُ غَيْره أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدَح فِي صِدْقه , خِلَافًا لِمَنْ أُعِلَّ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ عَلْقَمَة ذَكَرَ أَنَّ عُمَر خَطَبَ بِهِ عَلَى الْمِنْبَر ثُمَّ لَمْ يَصِحّ مِنْ جِهَة أَحَد عَنْهُ غَيْر عَلْقَمَة .
- وَاسْتُدِلَّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّ مَا لَيْسَ بِعَمَلٍ لَا تُشْتَرَط النِّيَّة فِيهِ , وَمِنْ أَمْثِلَة ذَلِكَ جَمْع التَّقْدِيم فَإِنَّ الرَّاجِح مِنْ حَيْثُ النَّظَر أَنَّهُ لَا يُشْتَرَط لَهُ نِيَّة ,
- وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْعَمَل إِذَا كَانَ مُضَافًا إِلَى سَبَب وَيَجْمَع مُتَعَدِّده جِنْس أَنَّ نِيَّة الْجِنْس تَكْفِي , كَمَنْ أَعْتَقَ عَنْ كَفَّارَة وَلَمْ يُعَيِّن كَوْنهَا عَنْ ظِهَار أَوْ غَيْره ; لِأَنَّ مَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ الْأَعْمَال بِنِيَّاتِهَا , وَالْعَمَل هُنَا الْقِيَام بِاَلَّذِي يَخْرَج عَنْ الْكَفَّارَة اللَّازِمَة وَهُوَ غَيْر مُحْوِج إِلَى تَعْيِين سَبَب , وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَة - وَشَكَّ فِي سَبَبهَا - أَجْزَأَهُ إِخْرَاجهَا بِغَيْرِ تَعْيِين .
- وَفِيهِ زِيَادَة النَّصّ عَلَى السَّبَب ; لِأَنَّ الْحَدِيث سِيقَ فِي قِصَّة الْمُهَاجِر لِتَزْوِيجِ الْمَرْأَة , فَذِكْر الدُّنْيَا فِي الْقِصَّة زِيَادَة فِي التَّحْذِير وَالتَّنْفِير. وَقَالَ شَيْخنَا شَيْخ الْإِسْلَام: فِيهِ إِطْلَاق الْعَامّ وَإِنْ كَانَ سَبَبه خَاصًّا , فَيُسْتَنْبَط مِنْهُ الْإِشَارَة إِلَى أَنَّ الْعِبْرَة بِعُمُومِ اللَّفْظ لَا بِخُصُوصِ السَّبَب.
المحاضرة الثانية: حديث جبريل
1- نص الحديث:
قال الإمام مسلم: حَدَّثَنِي أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ كَهْمَسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ ح و حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ وَهَذَا حَدِيثُهُ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا كَهْمَسٌ عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ قَالَ كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَالَ فِي الْقَدَرِ بِالْبَصْرَةِ مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيُّ حَاجَّيْنِ أَوْ مُعْتَمِرَيْنِ فَقُلْنَا لَوْ لَقِينَا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ فَسَأَلْنَاهُ عَمَّا يَقُولُ هَؤُلَاءِ فِي الْقَدَرِ فَوُفِّقَ لَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ دَاخِلًا الْمَسْجِدَ فَاكْتَنَفْتُهُ أَنَا وَصَاحِبِي أَحَدُنَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ فَظَنَنْتُ أَنَّ صَاحِبِي سَيَكِلُ الْكَلَامَ إِلَيَّ فَقُلْتُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ قِبَلَنَا نَاسٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَتَقَفَّرُونَ الْعِلْمَ وَذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ وَأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنْ لَا قَدَرَ وَأَنَّ الْأَمْرَ أُنُفٌ قَالَ فَإِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَوْ أَنَّ لِأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ مَا قَبِلَ اللَّهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ ثُمَّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ وَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنْ الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنْ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا قَالَ صَدَقْتَ قَالَ فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ قَالَ فَأَخْبِرْنِي عَنْ الْإِيمَانِ قَالَ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ قَالَ صَدَقْتَ قَالَ فَأَخْبِرْنِي عَنْ الْإِحْسَانِ قَالَ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ قَالَ فَأَخْبِرْنِي عَنْ السَّاعَةِ قَالَ مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ قَالَ فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا قَالَ أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ قَالَ ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا ثُمَّ قَالَ لِي يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنْ السَّائِلُ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ.
2- تخريج الحديث:
أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله سبحانه وتعالى وبيان الدليل على التبري ممن لا يؤمن بالقدر وإغلاظ القول في حقه،01.
أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة وبيان النبي له ثم قال جاء جبريل عليه السلام يعلمكم دينكم فجعل ذلك كله دينا وما بين النبي لوفد عبد القيس من الإيمان وقوله تعالى{ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه}، رقم 50.
وأخرجه أبو داود، كتاب السنة باب القدر، حديث 4679. وأخرجه الترمذي، كتاب الإيمان، ما جاء في وصف جبريل للنبي الإيمان والإسلام، رقم 261وأخرجه النسائي، كتاب الإيمان، باب نعت الإسلام، رقم 4990.
3- ترجمة الرواة:
- زهير بن حرب بن شداد أبو خثيمة النسائي نزيل بغداد ثقة ثبت روى عنه مسلم أكثر من ألف حديث من العاشرة مات سنة أربع وثلاثين وهو بن أربع وسبعين، روى له الشيخان وأبو دواد والنسائي وابن ماجة.
- وكيع بن الجراح بن مليح الرؤاسي بضم الراء وهمزة ثم مهملة أبو سفيان الكوفي ثقة حافظ عابد من كبار التاسعة مات في آخر سنة ست وأول سنة سبع وتسعين وله سبعون سنة، روى له الجماعة.
- كهمس بن الحسن التميمي أبو الحسن البصري ثقة من الخامسة مات سنة تسع، روى له الجماعة.
- عبد الله بن بريدة بن الحصيب الأسلمي أبو سهل المروزي قاضيها ثقة من الثالثة مات سنة خمس ومائة وقيل بل خمس عشرة وله مائة سنة، روى له الجماعة.
- يحيى بن يعمر بفتح التحتانية والميم بينهما مهملة البصري نزيل مرو وقاضيها ثقة فصيح وكان يرسل من الثالثة مات قبل المائة وقيل بعدها، روى له الجماعة.
- عبيد الله بن معاذ بن معاذ بن نصر بن حسان العنبري أبو عمرو البصري ثقة حافظ رجح بن معين أخاه المثنى عليه من العاشرة مات سنة سبع وثلاثين، روى له الشيخان وأبو داود والنسائي.
- معاذ بن معاذ بن نصر بن حسان العنبري أبو المثنى البصري القاضي ثقة متقن من كبار التاسعة مات سنة ست وتسعين، روى له الجماعة.
4- أهمية الحديث:
قال القاضي عياض رحمه الله: "وهذا الحديث قد اشتمل على شرح جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة من عقود الايمان وأعمال الجوارح وإخلاص السرائر والتحفظ من آفات الأعمال حتى أن علوم الشريعة كلها راجعة إليه ومتشعبة منه".
5- مفردات الحديث:
- القدر: مصدر، تقول قدرت الشيء -بتخفيف الدال وفتحها-، أقدره -بالكسر والفتح- قدرا وقدرا، إذا أحطت بمقداره، والمراد أن الله تعالى علم مقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد ما سبق في علمه أنه يوجد فكل محدث صادر عن علمه وقدرته وإرادته.
- أَوَّل مَنْ قَالَ فِي الْقَدَرِ، أي تكلم في القدر، ويسمون القدرية، وهي فرقة كلامية تنتسب إلى الإسلام، وتعدّ من أول الفرق الإسلامية المخالفة وقد ظهرت في بداية عهد الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز، أول من قال بالقدر هو معبد الجهني البصري في آواخر عهد الصحابة، وأخذ عنه غيلان الدمشقي، وقد قتله الخليفة هشام بن عبد الملك بصلبه على أبواب الشام، ورأي هؤلاء أن الله لا يعلم شيئا إلا بعد وقوعه وإن الأحداث بمشيئة البشر وليست بمشيئة الله، وتقول: لا قدر والأمر أنف أي مستأنف، وهو نفي لعلم الله السابق، وأن الله لا يعلم الأشياء إلا بعد حدوثها.
- فَاكْتَنَفْتُهُ: أي أحطنا به.
- يَتَقَفَّرُونَ الْعِلْمَ (يتتبعون دقائقه وشبهاته)
- أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ: من البراءة، أي المعاداة وعدم الموالاة، وتجب فيمن أنكر معلوما من الدين بالضرورة.
- "حتى جلس إلى النبي فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه": في رواية لسليمان التيمي: "ليس عليه سحناء السفر وليس من البلد فتخطى حتى برك بين يدي النبي كما يجلس أحدنا في الصلاة ثم وضع يده على ركبتي النبي "، وكذا في حديث بن عباس وأبي عامر الأشعري: "ثم وضع يده على ركبتي النبي " فأفادت هذه الرواية أن الضمير في قوله على فخذيه يعود على النبي .
- الإحسان: هو مصدر، تقول أحسن يحسن إحسانا، ويتعدى بنفسه وبغيره، تقول: أحسنت كذا إذا أتقنته، وأحسنت إلى فلان، إذا أوصلت إليه النفع، والأول هو المراد لأن المقصود إتقان العبادة.
- يتطاولون: يتفاخرون به.
- الحفاة العراة رعاة الشاء: المراد بهم أهل البادية، كما في رواية سليمان التيمي وغيره، قال: ما الحفاة العراة؟، قال: العُريب".
6- الأحكام المستفادة:
- يستفاد من قول الراوي "بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ذَاتَ يَوْمٍ"، وفي رواية أبي فروة: "كان رسول الله يجلس بين أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو فطلبنا إليه أن نجعل له مجلسا يعرفه الغريب إذا أتاه قال فبنينا له دكانا من طين كان يجلس عليه"، يستفاد منه استحباب جلوس العالم بمكان يختص به ويكون مرتفعا إذا أحتاج لذلك لضرورة تعليم ونحوه
- يستحب للداخل أن يعمم بالسلام ثم يخصص من يريد تخصيصه، كما ورد في بعض الروايات قول جبريل: " السلام عليك يا محمد."
- في تقديم السؤال عن الإيمان في الرواية المشهورة قبل غيره دليل على أنه الأصل وثنى بالإسلام لأنه يظهر مصداق الدعوى وثلث بالإحسان لأنه متعلق بهما.
- أجمل الحديث الإيمان بالله عز وجل وهو يشمل توحيده بربوبيَّته الإقرارُ بأنَّه واحد في أفعاله، لا شريك له فيها، كالخَلق والرَّزق والإحياء والإماتة، وتوحيد الألوهيَّة توحيده بأفعال العباد، كالدعاء والخوف والرَّجاء والتوكُّل والاستعانة والاستعاذة والاستغاثة والذَّبح والنَّذر، وتوحيد الأسماء والصفات، فهو إثبات كلِّ ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله من الأسماء والصفات.
- دل الإجمال في الملائكة والكتب والرسل على الاكتفاء بذلك في الإيمان بهم من غير تفصيل الا من ثبت تسميته فيجب الإيمان به على التعيين.
- قوله: "واليوم الآخر"، قيل: ذكر الآخر تأكيدا كقولهم أمس الذاهب، وقيل: لأن البعث وقع مرتين، الأولى الإخراج من العدم إلى الوجود أو من بطون الأمهات بعد النطفة والعلقة إلى الحياة الدنيا والثانية البعث من بطون القبور إلى محل الاستقرار، وأما اليوم الآخر فقيل له ذلك لأنه آخر أيام الدنيا أو آخر الأزمنة المحدودة، والمراد بالإيمان به والتصديق بما يقع فيه من الحساب والميزان والجنة والنار.
- الحكمة في إعادة لفظ "وتؤمن" عند ذكر البعث الإشارة إلى أنه نوع آخر مما يؤمن به؛ لأن البعث سيوجد بعد. وما ذكر قبله موجود الآن، وللتنويه بذكره لكثرة من كان ينكره من الكفار ولهذا كثر تكراره في القرآن وهكذا الحكمة في إعادة لفظ وتؤمن عند ذكر القدر كأنها أشارة إلى ما يقع فيه من الاختلاف فحصل الاهتمام بشأنه بإعادة "تؤمن".
- قوله: "متى الساعة"، أي متى تقوم الساعة قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، قال النووي: "يستنبط منه أن العالم إذا سئل عما لا يعلم يصرح بأنه لا يعلمه ولا يكون في ذلك نقص من مرتبته بل يكون ذلك دليلا على مزيد ورعه. وقال القرطبي: "مقصود هذا السؤال كف السامعين عن السؤال عن وقت الساعة لأنهم قد أكثروا السؤال عنها كما ورد في كثير من الآيات والأحاديث فلما حصل الجواب بما ذكر هنا حصل اليأس من معرفتها بخلاف الأسئلة الماضية فإن المراد بها استخراج الأجوبة ليتعلمها السامعون ويعملوا بها ونبه بهذه الأسئلة على تفصيل ما يمكن معرفته مما لا يمكن".
- دل الحديث أن الساعة يقرب قيامها عند انعكاس الأمور بحيث يصير المربى مربيا والسافل عاليا وهو مناسب لقوله في العلامة الأخرى "أن تصير الحفاة ملوك الأرض"، وفُسِّر بأنَّه إشارة إلى كثرة الفتوحات وكثرة السبي، وأن من المسْبيات مَن يطؤها سيِّدُها فتلد له، فتكون أمَّ ولد، ويكون ولدها بمنزلة سيِّدها، وفسِّر بتغير الأحوال وحصول العقوق من الأولاد لآبائهم وأمَّهاتهم وتسلُّطهم عليهم، حتى يكون الأولاد كأنَّهم سادة لآبائهم وأمَّهاتهم.
قال القرطبي: "المقصود الإخبار عن تبدل الحال بأن يستولى أهل البادية على الأمر ويتملكوا البلاد بالقهر فتكثر أموالهم وتنصرف هممهم إلى تشييد البنيان والتفاخر به وقد شاهدنا ذلك في هذه الأزمان ومنه الحديث الآخر" "لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع"، ومنه: "إذا وسد الأمر أي أسند إلى غير أهله فانتظروا الساعة".
- قال ابن المنير: في قوله: "يعلمكم دينكم" دلالة على أن السؤال الحسن يسمى علما وتعليما، لأن جبريل لم يصدر منه سوى السؤال، ومع ذلك فقد سماه معلما، وقد اشتهر قولهم: حسن السؤال نصف العلم.
- دل الحديث على أن الملائكةَ تتحوَّل عن خِلقتِها، وتأتي بأشكال الآدميِّين.
- دل الحديث على التفاوت بين الإسلام والإيمان والإحسان، وعلى علوِّ درجة الإحسان باعتباره ذروة الإيمان، والله أعلم.
المحاضرة الثالثة: حديث الشبهات، والموقف منها.
أ)- نصّ الحديث:
قال البخاري: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ، عَنْ عَامِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " الحَلاَلُ بَيِّنٌ، وَالحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى المُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ: كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ، أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ ".
وقال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو فَرْوَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي فَرْوَةَ، سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ، سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي فَرْوَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الحَلاَلُ بَيِّنٌ، وَالحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ، فَمَنْ تَرَكَ مَا شُبِّهَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ، كَانَ لِمَا اسْتَبَانَ أَتْرَكَ، وَمَنِ اجْتَرَأَ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنَ الإِثْمِ، أَوْشَكَ أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ، وَالمَعَاصِي حِمَى اللَّهِ مَنْ يَرْتَعْ حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ».
ب)- تخريج الحديث:
رواه البخاري باللفظ الأول، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، رقم 52.
ورواه باللفظ الثاني، كتاب البيوع، باب الحلال بين والحرام بين وبينهما مشبهات، رقم 2051.
ج)- ترجمة رجال الإسناد:
الفضل بن دكين: الكوفي واسم دكين عمرو بن حماد بن زهير التيمي مولاهم الأحول أبو نعيم الملائي بضم الميم مشهور بكنيته ثقة ثبت من التاسعة مات سنة ثماني عشرة وقيل تسع عشرة وكان مولده سنة ثلاثين وهو من كبار شيوخ البخاري، روى له الجماعة.
زكريا بن أبي زائدة: خالد ويقال هبيرة بن ميمون بن فيروز الهمداني الوادعي أبو يحيى الكوفي ثقة وكان يدلس وسماعه من أبي إسحاق بأخرة من السادسة مات سنة سبع أو ثمان أو تسع وأربعين روى له الجماعة.
عامر بن شراحيل: الشعبي بفتح المعجمة أبو عمرو ثقة مشهور فقيه فاضل من الثالثة قال مكحول ما رأيت أفقه منه مات بعد المائة وله نحو من ثمانين، روى له الجماعة.
النعمان بن بشير: بن سعد بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي له ولأبويه صحبة ثم سكن الشام ثم ولي إمرة الكوفة ثم قتل بحمص سنة خمس وستين وله أربع وستون سنة، روى له الجماعة.
وقد دخل النعمان الكوفة وولي إمرتها، وزاد مسلم والإسماعيلي من طريق زكريا فيه: وأهوى النعمان بأصبعه إلى أذنيه يقول سمعت رسول الله يقول، وفي هذا رد لقول الواقدي ومن تبعه أن النعمان لا يصح سماعه من رسول الله . وفيه دليل على صحة تحمل الصبي المميز؛ لأن النبي مات وللنعمان ثمان سنين.
د)- حكم الحديث:
الحديث صحيح لاشك، وأما علة التدليس، فزكرياء موصوف بالتدليس، وجاء في فوائد ابن أبي الهيثم من طريق يزيد بن هارون عن زكريا: حدثنا الشعبي، فحصل الأمن من تدليسه.
ه)- فضل الحديث:
عظم العلماء أمر هذا الحديث فعدوه رابع أربعة تدور عليها الأحكام كما نقل عن أبي داود وفيه البيتان المشهوران وهما:
عمدة الدين عندنا كلمات مسندات من قول خير البرية
أترك المشبهات وازهد ودع ما ليس يعنيك واعملن بنيه
وأشار ابن العربي إلى أنه يمكن أن ينتزع منه وحده جميع الأحكام، قال القرطبي: "لأنه أشتمل على التفصيل بين الحلال وغيره وعلى تعلق جميع الأعمال بالقلب، فمن هنا يمكن أن ترد جميع الأحكام إليه".
و)- شرح المفردات:
(الحلال بين): بتشديد الياء المكسورة أي واضح لا يخفي حله بأن ورد نص على حله أو مهد أصل يمكن استخراج الجزئيات منه.
(والحرام بين): أي ظاهر لا تخفى حرمته بأن ورد نص على حرمته كالفواحش والمحارم والميتة والدم ونحوها أو مهد ما يستخرج منه نحو كل مسكر حرام.
(مُشبَهات): بوزن مفعلات بتشديد العين المفتوحة أي شبهت بغيرها مما لم يتبين به حكمها على التعيين. وفي رواية الأصيلي (مشتبهات) بوزن مفتعلات، والمعنى أنها موحدة اكتسبت الشبه من وجهين متعارضين ورواه الدارمي عن أبي نعيم شيخ البخاري فيه بلفظ وبينهما (متشابهات).
(استبرأ): استبرأ بالهمز بوزن استفعل من البراءة أي برأ دينه من النقص وعرضه من الطعن فيه لأن من لم يعرف باجتناب الشبهات لم يسلم لقول من يطعن فيه
(الحمى): بكسر المهملة وفتح ميم مخففة وهو المرعى الذي يحميه السلطان من أن يرتع منه غير رعاة دوابه.
( يوشك أن يواقعه ) أي يقرب أن يقع في الحمى قال ابن حجر: "في اختصاص التمثيل بذلك نكتة وهي أن ملوك العرب كانوا يحمون لمراعي مواشيهم أماكن مختصة يتوعدون من يرعى فيها بغير إذنهم بالعقوبة الشديدة فمثل لهم النبي صلى الله عليه و سلم بما هو مشهور عندهم فالخائف من العقوبة المراقب لرضا الملك يبعد عن ذلك الحمى خشية أن تقع مواشيه في شيء منه فبعده أسلم له ولو اشتد حذره".
والمعنى أن الحلال حيث يخشى أن يؤول فعله مطلقا إلى مكروه أو محرم ينبغي اجتنابه كالإكثار مثلا من الطيبات فأنه يحوج إلى كثرة الاكتساب الموقع في أخذ ما لا يستحق أو يفضى إلى بطر النفس وأقل ما فيه الاشتغال عن مواقف العبودية وهذا معلوم بالعادة مشاهد بالعيان.
(مضغة) أي قدر ما يمضغ وعبر بها هنا عن مقدار القلب في الرؤية وسمي القلب قلبا لتقلبه في الأمور أو لأنه خالص ما في البدن وخالص كل شيء قلبه أو لأنه وضع في الجسد مقلوبا.
ي)- الأحكام المستفادة:
- في الحديث دليل على أن من لم يتوق الشبهة في كسبه ومعاشه فقد عرض نفسه للطعن فيه.
- فيه إشارة إلى المحافظة على أمور الدين ومراعاة المروءة.
- اختلف في حكم الشبهات فقيل: التحريم وهو مردود وقيل: الكراهة وقيل: الوقف.
- حاصل ما فسر به العلماء الشبهات أربعة أشياء أحدها تعارض الأدلة كما تقدم. ثانيها: اختلاف العلماء وهي منتزعة من الأولى ثالثها: أن المراد بها مسمى المكروه لأنه يجتذبه جانبا الفعل والترك. رابعها: أن المراد بها المباح. ولا يمكن قائل هذا أن يحمله على متساوي الطرفين من كل وجه بل يمكن حمله على ما يكون من قسم خلاف الأولى بأن يكون متساوي الطرفين باعتبار ذاته راجح الفعل أو الترك باعتبار أمر خارج.
ونقل ابن المنير في مناقب شيخه القباري عنه أنه كان يقول: المكروه عقبة بين العبد والحرام فمن استكثر من المكروه تطرق إلى الحرام والمباح عقبة بينه وبين المكروه فمن استكثر منه تطرق إلى المكروه.
ولا يخفى أن المستكثر من المكروه تصير فيه جرأة على ارتكاب المنهي في الجملة أو يحمله اعتياده ارتكاب المنهي غير المحرم على ارتكاب المنهي المحرم إذا كان من جنسه أو يكون ذلك لشبهة فيه وهو أن من تعاطى ما نهى عنه يصير مظلم القلب لفقدان نور الورع فيقع في الحرام ولو لم يختر الوقوع فيه.
- المراد بالمحارم فعل المنهي المحرم أو ترك المأمور الواجب ولهذا وقع في رواية أبي فروة التعبير بالمعاصي بدل المحارم وقوله الا للتنبيه على صحة ما بعدها وفي اعادتها وتكريرها دليل على عظم شأن مدلولها.
- في الحديث تنبيه على تعظيم قدر القلب والحث على صلاحه والإشارة إلى أن لطيب الكسب أثرا فيه والمراد المتعلق به من الفهم الذي ركبه الله فيه
- يستدل به على أن العقل في القلب ومنه قوله تعالى فتكون لهم قلوب يعقلون بها وقوله تعالى إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب قال المفسرون أي عقل وعبر عنه بالقلب لأنه محل استقراره.
- من أمثلة الشبهات ما رواه البخاري قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ جَاءَتْ فَزَعَمَتْ أَنَّهَا أَرْضَعَتْهُمَا، فَذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، وَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ، وَقَدْ كَانَتْ تَحْتَهُ ابْنَةُ أَبِي إِهَابٍ التَّمِيمِيِّ».
ومثال آخر رواه البخاري قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ مِنِّي فَاقْبِضْهُ، قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ عَامَ الفَتْحِ أَخَذَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَقَالَ: ابْنُ أَخِي قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ، فَقَامَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، فَقَالَ: أَخِي، وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَتَسَاوَقَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْنُ أَخِي كَانَ قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ، فَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: أَخِي، وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ»، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ» ثُمَّ قَالَ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ - زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «احْتَجِبِي مِنْهُ» لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ فَمَا رَآهَا حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ.
وفي مثال آخر، قال البخاري: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ المِعْرَاضِ، فَقَالَ: «إِذَا أَصَبْتَ بِحَدِّهِ فَكُلْ، فَإِذَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَقَتَلَ فَإِنَّهُ وَقِيذٌ فَلاَ تَأْكُلْ».
فَقُلْتُ: أُرْسِلُ كَلْبِي؟ قَالَ: «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَسَمَّيْتَ فَكُلْ» قُلْتُ: فَإِنْ أَكَلَ؟ قَالَ: «فَلاَ تَأْكُلْ، فَإِنَّهُ لَمْ يُمْسِكْ عَلَيْكَ، إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ» قُلْتُ: أُرْسِلُ كَلْبِي فَأَجِدُ مَعَهُ كَلْبًا آخَرَ؟ قَالَ: «لاَ تَأْكُلْ، فَإِنَّكَ إِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى آخَرَ».
وفي مثال آخر، قال البخاري: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَمْرَةٍ فِي الطَّرِيقِ، قَالَ: «لَوْلاَ أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتُهَا».
- وسوسة الصلاة ليست شبهات وعلى المرء البناء على اليقين وترك الشك، قال البخاري في باب: من لم ير الوساوس من الشبهات، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَمِّهِ، قَالَ: شُكِيَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلُ يَجِدُ فِي الصَّلاَةِ شَيْئًا أَيَقْطَعُ الصَّلاَةَ؟ قَالَ: «لاَ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا» وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَفْصَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: «لاَ وُضُوءَ إِلَّا فِيمَا وَجَدْتَ الرِّيحَ أَوْ سَمِعْتَ الصَّوْتَ».
المحاضرة الرابعة: حديث: احفظ الله يحفظك
أ)- نص الحديث:
قال الترمذي: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن أخبرنا أبو الوليد حدثنا ليث بن سعد حدثني قيس بن الحجاج عن حنش الصنعاني عن ابن عباس قال: كنت خلف رسول الله يوما فقال: «يا غلام إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف». قال هذا حديث حسن صحيح.
وفي رواية عند البيهقي: " كنت رديف رسول الله فقال: يا غلام , ألا أعلمك كلمات لعل الله أن ينفعك بهن؟ قلت: بلى, يا رسول الله, قال: احفظ الله يحفظك, احفظ الله تجده أمامك, تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة..."
ب)- تخريج الحديث:
رواه الترمذي، كتاب صفة القيامة والزهد والورع، باب 59، رقم 2516.
ورواه البيهقي،
ج)- ترجمة الرواة.
عبد الله بن عبد الرحمن: بن الفضل بن بهرام السمرقندي أبو محمد الدارمي، الحافظ صاحب المسند، ثقة فاضل متقن، مات سنة مائتين خمس وخمسين، وله أربع وسبعون م د ت.
أبو الوليد الطيالسي: هشام بن عبد الملك الباهلي مولاهم البصري، ثقة ثبت، مات سنة مائتين وسبع وعشرين، وله أربع وتسعون ع.
الليث بن سعد: بن عبد الرحمن الفهمي، أبو الحارث المصري، ثقة ثبت فقيه إمام مشهور، مات في شعبان سنة مائة خمس وسبعين، ع.
قيس بن الحجاج: الكلاعي المصري، صدوق، مات سنة مائة وتسع وعشرين ت.
حنش بن عبد الله: ويقال بن علي بن عمرو السبإي، أبو رشدين الصنعاني، نزيل إفريقية، ثقة، مات سنة مائة، م 4. .
د)- حكم الحديث:
الحديث بهذا الإسناد حسن لحال قيس بن الحجاج، وصححه الترمذي لوروده من طرق أخرى عنده وعند الإمام أحمد.
ه)- شرح المفردات.
- يا غلام: الغلام هو الصبي من حين فطامه إلى أن يكون عمره تسع سنين، وقيل غير ذلك.
- إني أعلمك كلمات: الكلمة في اللغة مجموعة حروف ذات معنى، والمراد هنا ما تضمن نصيحة أو أمرا، كقوله تعالى: "فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه" (البقرة:37)، وقوله: "وإذا بتلى ابراهيم ربه بكلمات فأتمهن" (البقرة:124).
- احفظ الله: يعني احفظ حدوده وحقوقه وأوامره ونواهيه. قال عز و جل: "هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب" (ق:32-33).
- يحفظك: يعني أن من حفظ حدود الله وراعى حقوقه حفظه الله، فإن الجزاء من جنس العمل، كما قال تعالى: "وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم" (البقرة:40)، وقال: "اذكروني أذكركم" (البقرة:152)، وقال: "إن تنصروا الله ينصركم" (محمد:7).
و)- الأحكام والمعاني المستفادة:
- تضمن الحديث نوعان من الحفظ، حفظ العبد لله، وهو رعاية أوامره ونواهيه، من ذلك حفظ الصلاة: قال تعالى: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى" (البقرة:238)، وحفظ الطهارة: قال النبي : "لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن" (ابن ماجة). وحفظ الأيمان: قال الله عز و جل: "واحفظوا أيمانكم" (المائدة:89)، وحفظ الرأس والبطن كما في حديث ابن مسعود: "الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى وتحفظ البطن وما حوى" (رواه أحمد). وقال تعالى: "قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم" (النور:30).
والنوع الثاني: حفظ الله لعبده، يدخل فيه نوعان:
أحدهما: حفظه له في مصالح دنياه كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله، قال الله عز و جل: "له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله" (الرعد:11)، قال ابن عباس: "هم الملائكة يحفظونه بأمر الله فإذا جاء القدر خلوا عنه"، وقال ابن المنكدر: "إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده والدويرات التي حوله فما يزالون في حفظ من الله وستر".
النوع الثاني: حفظ الله للعبد في دينه وإيمانه فيحفظه في حياته من الشبهات المضلة ومن الشهوات المحرمة ويحفظ عليه دينه عند موته فيتوفاه على الإيمان. قال ابن عباس في قوله تعالى: "إن الله يحول بين المرء وقلبه" قال: يحول بين المؤمن وبين المعصية التي تجره إلى النار.
- احفظ الله تجده تجاهك: معناه أن من حفظ حدود الله وراعى حقوقه وجد الله معه في كل أحواله حيث توجه يحوطه وينصره ويحفظه ويوفقه ويسدده: "إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون" (النحل:128). وهذه المعية الخاصة هي المذكورة في قوله تعالى لموسى وهارون: "لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى" (طه:46)، وقول موسى: "كلا إن معي ربي سيهدين" (الشعراء:62)، وفي قول النبي لأبي بكر وهما في الغار: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما"، "لا تحزن إن الله معنا" (التوبة:40).
- تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة: يعني أن العبد إذا اتقى الله وحفظ حدوده وراعى حقوقه في حال رخائه فقد تعرف بذلك إلى الله وصار بينه وبين ربه معرفة خاصة فعرفه ربه في الشدة روعي له تعرفه إليه في الرخاء فنجاه من الشدائد فمعرفة العبد لربه نوعان
أحدهما: المعرفة العامة وهي معرفة الإقرار به والتصديق والإيمان وهو عامة للمؤمنين
والثاني: معرفة خاصة تقتضي ميل القلب إلى الله بالكلية والانقطاع إليه والأنس به والطمأنينة بذكره والحياء منه والهيبة له.
ومعرفة الله أيضا لعبده نوعان
معرفة عامة: وهي علمه تعالى بعباده واطلاعه على ما أسروه وما أعلنوه كما قال: "ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه" (ق:16) ، قال: "هو أعلم بكم إذا أنشأكم من الأرض وإذا أنتم أجنة في بطون أمهاتكم" (النجم:32).
والثاني: معرفة خاصة وهي تقتضي محبته لعبده وتقريبه إليه وإجابة دعائه وإنجائه من الشدائد وهي المشار إليها بقوله فيما يحكي عن ربه: "ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه" (رواه البخاري). وقال الله تعالى عن يونس: "فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون" (الصافات:143-144)، وإن فرعون كان طاغيا ناسيا لذكر الله: "فلما أدركه الغرق قال آمنت": فقال الله تعالى: "ءآلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين" (يونس:90-91).
- إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله: هذا منزع من قوله تعالى: "إياك نعبد وإياك نستعين"، فإن السؤال هو دعاؤه والرغبة إليه والدعاء هو العبادة. ولا يقدر على كشف الضر وجلب النفع سواه، كما قال: "وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله" (يونس:017)، وقال: "ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده" (فاطر:02).
- واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك.
والمراد إنما يصيب العبد في دنياه مما يضره أو ينفعه فكله مقدر عليه ولا يصيب العبد إلا ما كتب له من مقادير ذلك في الكتاب السابق ولو اجتهد على ذلك الخلق كلهم جميعا، وقد دل القرآن على مثل هذا في قوله عز وجل: "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا" (التوبة:51)، وقوله: "ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها" (الحديد:22)، وخرج الإمام أحمد من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي قال: "إن لكل شيء حقيقة وما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وإن ما أخطأه لم يكن ليصيبه" (رواه البزار).
- رفعت الأقلام وجفت الصحف: هو كناية عن تقدم كتابة المقادير كلها والفراغ منها من أمد بعيد، فإن الكتاب إذا فرغ من كتابه ورفعت الأقلام عنه وطال عهده فقد رفعت عنه الأقلام وجفت الأقلام التي كتب بها من مدادها وجفت الصحف التي كتب فيها بالمداد المكتوب به فيها.
وقد دل الكتاب والسنن الصحيحة الكثيرة على مثل هذا المعنى، قال الله تعالى: "ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير"، وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو عن النبي قال: "إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة"، وفيه أيضا عن جابر: أن رجلا قال: يا رسول الله ففيم العمل اليوم، أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما يستقبل؟، قال: لا، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، قال: ففيم العمل؟، قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له". وخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث عبادة بن الصامت عن النبي قال: "إن أول ما خلق الله القلم، ثم قال: اكتب، فكتب في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة". (رواه مسلم).
المحاضرة الخامسة: حديث (من أحدث في أمرنا)
أولا: نص الحديث:
قال البخاري: حدثنا يعقوب بن ابراهيم بن سعد حدثنا إبراهيم بن سعد عن أبيه سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد" رواه عبد الله بن جعفر المخرمي وعبد الواحد بن أبي عون عن سعد بن إبراهيم.
وفي رواية لمسلم (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد).
ثانيا: تخريج الحديث:
أخرجه البخاري في كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود برقم (2697) ومسلم في الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور برقم (1718)
ثالثا: ترجمة الرواة:
يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري أبو يوسف المدني نزيل بغداد ثقة فاضل من صغار التاسعة مات سنة ثمان ومائتين،ع.
إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري أبو إسحاق المدني نزيل بغداد ثقة حجة تكلم فيه بلا قادح من الثامنة مات سنة خمس وثمانين،ع.
سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ولي قضاء المدينة وكان ثقة فاضلا عابدا من الخامسة مات سنه خمس وعشرين وقيل بعدها وهو بن اثنتين وسبعين سنة، ع.
القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق التيمي ثقة أحد الفقهاء بالمدينة قال أيوب ما رأيت أفضل منه من كبار الثالثة مات سنة ست ومائة على الصحيح، ع.
عائشة بنت أبي بكر الصديق أم المؤمنين أفقه النساء مطلقا وأفضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلا خديجة ففيهما خلاف شهير ماتت سنة سبع وخمسين على الصحيح، ع.
رابعا: شرح المفردات:
(من أحدث): الإحداث هو الإبتداع كما فسره النبي بقوله: (وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة) رواه أبو داود والترمذي .
والبدعة: هي كل قول أو فعل محدث نسب إلى الدين وليس له أصل في الكتاب أو السنة أو الإجماع ، قال ابن رجب "والمراد بالبدعة ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه"، وقال أيضا: "فكل من أحدث شيئا ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة والدين منه بريء".
الأمر: هو الدين والشريعة، وفي رواية: من أحدث في شرعنا ما ليس منه فهو رد.
خامسا:
أولا: دل الحديث على أن كل عمل ليس عليه أمر الشرع فهو مردود ويدل بمفهومه على أن كل عمل موافق للشرع فهو مقبول، وقد ورد آثار كثيرة عن الصحابة تبين هذا المعنى، رأى ابن مسعود رضي الله عنه أناسًا جالسين في المسجد ومعهم الحصى، يكبرون مائة ويهللون مائة ويسبحون مائة فوقف عليهم فقال ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا يا أبا عبد الرحمن حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح. قال فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء. ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة نبيكم متوافرون وهذه ثيابه لم تبل وآنيته لم تكسر. والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد أو مفتتحو باب ضلالة. قالوا والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير. قال وكم من مريد للخير لن يصيبه (رواه الدارمي).
ثانيا: إذا اعتبرنا البدعة فعل ما لم يدل عليه نص أو أصل في الدين فلا يستقيم إطلاق وصف البدعة الحسنة على بعض الاجتهادات الموافقة للشرع، وأما قول الخليفة عمر رضي الله عنه لما رأى الصحابة اجتمعوا على إمام واحد في صلاة التراويح وكانوا يصلون أوزاعا قال: "نعمت البدعة هذه"، فمحمول على معنى البدعة اللغوي وليس مراده المعنى الشرعي للبدعة.
وما فعله عمر غير مخالف للشرع فقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى صلاة الليل في رمضان فصلى رجال بصلاته ثم فعل ذلك الليلة الثانية والثالثة ثم ترك ذلك في الرابعة وقال: إني خشيت أن تفرض عليكم.
كما أن اجتهاد عمر معتبر شرعا مالم يخالف كتابا أو سنة كما أوصى بذلك النبي (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الر اشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ).
ثالثا: لا تجري البدعة على ما كان من الشؤون الدنيوية الخالصة في حياة الناس، فهذه جائزة ما لم يدل دليل على تحريمها، والأصل في العبادات الحظر إلا ما دل الشرع على فعله، والأصل في العادات الحل إلا ما دل الشرع على منعه.
رابعا: هناك فرق ظاهر بين البدعة والمصلحة المرسلة ، فالبدعة تكون في الأمور التعبدية ويقصد بها التقرب إلى الله وليس لها أصل في الشرع لا في جنسها ولا في عينها، أما المصلحة المرسلة فتكون في الوسائل ولا يقصد التعبد بها وقد دل الشرع على اعتبار جنسها وليس فيها مخالفة للشرع ومنافاة لمقاصده كاتخاذ عمر رضي الله عنه الديوان وجمع عثمان رضي الله عنه القرآن وبناء المسلمين المدارس والأربطة ونحو ذلك مما ظهرت مصلحته ودعت الحاجة إليه ولم يقم مقتضاه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن يقصد به التعبد.
خامسا: البدعة على أنواع:
1- بدعة في الإعتقاد: كاعتقاد علم الغيب لأحد من الخلق أو أن هناك أبدالا يتصرفون في الكون أو أن الكون خلق من نور محمد ونحو ذلك مما تعلق بأصول الدين كأسماء الله وصفاته وأفعاله والنبيين والغيب .
2- بدعة في العبادة: كابتداع صلوات وأذكار وأوراد وأدعية وأعياد على هيئة غير مشروعة كصلاة الرغائب والمولد النبوي ويوم وليلة الإسراء والمعراج وأعمال رجب وغير ذلك مما يتعلق بالعبادات.
3- بدعة في السلوك: كالتقرب إلى الله بتحريم الحلال وتحليل الحرام كالإمتناع عن لبس ناعم الثياب والزواج وأكل اللحم والتنعم بالمباحات، والتقرب إلى الله بإستماع المعازف والنظر إلى المردان وغير ذلك مما يتعلق بالسلوك.
سادسا: من أحدث بدعة ودعى الناس إليها فعليه وزرها و وزر من عمل بها إلى يوم القيامة ، ومن دعى الناس إلى سنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها و وزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا) رواه مسلم.
المحاضرة السادسة: حديث "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه".
أولا: نص الحديث.
قال الترمذي: حدثنا أحمد بن نصر النيسابوري وغير واحد قالوا: حدثنا أبو مسهر عن إسماعيل بن عبد الله بن سماعة عن الأوزاعي عن قرة عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : "من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه".
ثانيا: تخريج الحديث.
رواه الترمذي، كتاب الزهد، رقم 2317. ورواه مالك في الموطأ، كتاب الجامع، باب ما جاء في حسن الخلق، رقم 3352.
ثالثا: ترجمة الرواة.
أحمد بن نصر بن زياد النيسابوري الزاهد المقرىء أبو عبد الله بن أبي جعفر ثقة فقيه حافظ من الحادية عشرة مات سنة خمس وأربعين ت س.
عبد الأعلى بن مسهر الغساني أبو مسهر الدمشقي ثقة فاضل من كبار العاشرة مات سنة ثماني عشرة وله ثمان وسبعون سنة ع.
إسماعيل بن عبد الله بن سماعه العدوي مولى آل عمر الرملي وقد ينسب إلى جده ثقة قديم الموت من الثامنة د ت س.
عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو الأوزاعي أبو عمرو الفقيه ثقة جليل من السابعة مات سنة سبع وخمسين ع.
قرة بن عبد الرحمن بن حيويل بمهملة مفتوحة ثم تحتانية وزن جبريل المعافري المصري يقال اسمه يحيى صدوق له مناكير من السابعة مات سنة سبع وأربعين م 4.
محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب القرشي الزهري أبو بكر الفقيه الحافظ متفق على جلالته وإتقانه وهو من رؤوس الطبقة الرابعة مات سنة خمس وعشرين وقيل قبل ذلك بسنة أو سنتين ع.
أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني قيل اسمه عبد الله وقيل إسماعيل ثقة مكثر من الثالثه مات سنة أربع وتسعين أو أربع ومائة وكان مولده سنة بضع وعشرين ع.
أبو هريرة الدوسي الصحابي الجليل حافظ الصحابة اختلف في اسمه واسم أبيه قيل عبد الرحمن بن صخر، مات سنة سبع وقيل سنة ثمان وقيل تسع وخمسين وهو بن ثمان وسبعين سنة ع.
رابعا: حكم الحديث.
قال الترمذي: قال هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي إلا من هذا الوجه.
حدثنا قتيبة حدثنا مالك بن أنس عن الزهري عن علي بن حسين قال : قال رسول الله : إن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
قال أبو عيسى: وهكذا روى غير واحد من أصحاب الزهري عن الزهري عن علي بن حسين عن النبي نحو حديث مالك مرسلا، وهذا عندنا أصح من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة، و علي بن حسين لم يدرك علي ابن أبي طالب.
ورواه عبد الله بن عمر العمري عن علي بن حسين عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و سلم فوصله وجعله من مسند الحسين بن علي، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده من هذا الوجه والعمري ليس بالحافظ.
خامسا: أهمية الحديث.
قال أبو بكر بن داسة: سمعت أبا داود يقول: كتبت عن رسول الله خمس مئة ألف حديث انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب يعني كتاب " السنن " جمعت فيه أربعة آلاف حديث وثماني مئة حديث ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث أحدها قوله "الأعمال بالنيات" . والثاني "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" . والثالث قوله: " لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه" . والرابع " الحلال بين".
سادسا: شرح المفردات.
"من" تبعيضية، أي هناك ما يحسن به الإسلام غير ما ذكر.
"حسن": أي كماله وتمامه.
"الإسلام": الإذعان والخضوع لأمر الله.
"تركه": الابتعاد والتنزه.
"ما لا يعنيه": ما لا يفيده في دنياه وآخرته، ولا علاقة له به.
سابعا: الأحكام المستفادة.
أولا: دل الحديث على أن الإسلام مراتب ودرجات، تتفاوت بمقدار ما يأتي المسلم من خصاله.
ثانيا: من دواعي النهي عن الاشتغال بالغير، مما له أثر في دين المرء أمور منها:
- إفساد القلب بالتعلق بالدنيا وإثارة الحسد.
- أنه يؤدي بالإنسان إلى التجسس والغيبة. ولقد حذرنا الله تعالى من ذلك فقال : "يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ" (سورة الحجرات:12) .
عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ الْمِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ مَنْ قَدْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ لاَ تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ وَلاَ تُعَيِّرُوهُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ في جَوْفِ رَحْلِهِ".
- أنه يؤدي بالإنسان إلى قساوة القلب ووهن البدن وتعسير الرزق :
- أنه يجلب الضرر والأذى لنفس صاحبه. يقول ابن عباس رضي الله عنهما : لا تتكلم فيما لا يعنيك فإنه فضل ولا آمن عليك الزور ولا تتكلم فيما يعنيك حتى تجد له موضعا فرب متكلم في أمر يعنيه قد وضعه في غير موضعه فأعنته. وقال الإِمامُ الشافعيُّ رحمه اللّه لصاحبه الرَّبِيع : يا ربيعُ ! لا تتكلم فيما لا يعنيك، فإنك إذا تكلَّمتَ بالكلمة ملكتكَ ولم تملكها .
ثالثا: الضابط في معرفة المرء ما يعنيه وما لا يعنيه هو الشرع المطّهر، ومن ذلك ما كان من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ)، ومما يعني المسلم بدرجة كبيرة من شؤون الآخرين: شؤون المسلمين وقضاياهم في أي بلد كان، ومن أية جنسية كانوا، فإن: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا)، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى).
رابعا: بين النووي في رياض الصالحين ما يستثنى بالجواز في الاشتغال بالغير، فقال: "اعلم أن الغيبة تباح لغرض صحيح شرعي لا يمكن الوصول إليه إلا بها وهو ستة أسباب:
الأول: التظلم فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان والقاضي وغيرهما ممن له ولاية أو قدرة على إنصافه من ظالمه فيقول : ظلمني فلان بكذا
الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى الصواب فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر: فلان يعمل كذا فازجره عنه ونحو ذلك، ويكون مقصوده التوصل إلى إزالة المنكر فإن لم يقصد ذلك كان حراما.
الثالث: الاستفتاء فيقول للمفتي : ظلمني أبي أو أخي أو زوجي أو فلان بكذا فهل له ذلك ؟ وما طريقي في الخلاص منه وتحصيل حقي ودفع الظلم ؟ ونحو ذلك فهذا جائز للحاجة؛ ولكن الأحوط والأفضل أن يقول: ما تقول في رجل أو شخص أو زوج كان من أمره كذا ؟ فإنه يحصل به الغرض من غير تعيين.
الرابع: تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم وذلك من وجوه منها: جرح المجروحين من الرواة والشهود وذلك جائز بإجماع المسلمين بل واجب للحاجة.
ومنها: المشاورة في مصاهرة إنسان أو مشاركته أو إيداعه أو معاملته أو غير ذلك، أو مجاورته ويجب على المشاور أن لا يخفي حاله بل يذكر المساوئ التي فيه بنية النصيحة.
ومنها: إذا رأى متفقها يتردد إلى مبتدع أو فاسق يأخذ عنه العلم وخاف أن يتضرر المتفقه بذلك فعليه نصيحته ببيان حاله بشرط أن يقصد النصيحة، وهذا مما يغلط فيه وقد يحمل المتكلم بذلك الحسد ويلبس الشيطان عليه ذلك ويخيل إليه أنه نصيحة فليتفطن لذلك.
ومنها: أن يكون له ولاية لا يقوم بها على وجهها إما بأن لا يكون صالحا لها، وإما بأن يكون فاسقا أو مغفلا ونحو ذلك فيجب ذكر ذلك لمن له عليه ولاية عامة ليزيله ويولي من يصلح أو يعلم ذلك منه ليعامله بمقتضى حاله ولا يغتر به وأن يسعى في أن يحثه على الاستقامة أو يستبدل به.
الخامس: أن يكون مجاهرا بفسقه أو بدعته كالمجاهر بشرب الخمر ومصادرة الناس، وأخذ المكس وجباية الأموال ظلما وتولي الأمور الباطلة فيجوز ذكره بما يجاهر به ويحرم ذكره بغيره من العيوب إلا أن يكون لجوازه سبب آخر مما ذكرناه.
السادس: التعريف فإذا كان الإنسان معروفا بلقب كالأعمش والأعرج والأصم والأعمى والأحول وغيرهم جاز تعريفهم بذلك، ويحرم إطلاقه على جهة التنقص، ولو أمكن تعريفه بغير ذلك كان أولى.
فهذه ستة أسباب ذكرها العلماء وأكثرها مجمع عليه . ودلائلها من الأحاديث الصحيحة المشهورة".
ثم ذكر النووي أدلة ذلك، قال: "ودليل جواز إباحة الغيبة للمتظلم قوله تعالى : "لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا" (النساء:148).
ومن أدلة جواز ذلك في التعريف حديث: فقام رجل يقال له ذو اليدين.
وأما المجاهر بالفسق فدليل جواز غيبته قوله " ما أظن فلانا وفلانا يعرفان من ديننا شيئ". رواه البخاري.
وأما المستفتي فدليله حديث هند وقولها للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان رجل شحيح.
وأما المستعين على إزالة المنكر فدليله حديث زيد بن أرقم قال: خرجنا مع رسول الله في سفر أصاب الناس فيه شدة فقال عبد الله بن أبي: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا، وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فأتيت رسول الله فأخبرته بذلك فأرسل إلى عبد الله بن أبي فاجتهد يمينه ما فعل، فقالوا : كذب زيد رسول الله فوقع في نفسي مما قالوه شدة حتى أنزل الله تعالى تصديقي: {إذا جاءك المنافقون} ( المنافقين: 1) ثم دعاهم النبي ليستغفر لهم فلووا رؤوسهم. متفق عليه. والله أعلم".
المحاضرة السابعة: حديث النهي عن المنكر
أولا: نص الحديث.
قال الإمام مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن سفيان ح وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة كلاهما عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب وهذا حديث أبي بكر أَوَّلُ مَن بَدَأَ بالخُطْبَةِ يَومَ العِيدِ قَبْلَ الصَّلاةِ مَرْوانُ. فَقامَ إلَيْهِ رَجُلٌ، فقالَ: الصَّلاةُ قَبْلَ الخُطْبَةِ، فقالَ: قدْ تُرِكَ ما هُنالِكَ، فقالَ أبو سَعِيدٍ: أمَّا هذا فقَدْ قَضَى ما عليه سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ يقولُ: "مَن رَأَى مِنكُم مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بيَدِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسانِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وذلكَ أضْعَفُ الإيمانِ".
ثانيا: تخريج الحديث.
رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان وأن الإيمان يزيد وينقص وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان، رقم 49.
ثالثا: ترجمة الرواة.
عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الواسطي الأصل أبو بكر بن أبي شيبة الكوفي ثقة حافظ صاحب تصانيف من العاشرة مات سنة خمس وثلاثين، خ م د س ق.
وكيع بن الجراح بن مليح الرؤاسي بضم الراء وهمزة ثم مهملة أبو سفيان الكوفي ثقة حافظ عابد من كبار التاسعة مات في آخر سنة ست وأول سنة سبع وتسعين وله سبعون سنة، ع.
سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري أبو عبد الله الكوفي ثقة حافظ فقيه عابد إمام حجة من رؤوس الطبقة السابعة وكان ربما دلس مات سنة إحدى وستين وله أربع وستون، ع.
محمد بن المثنى بن عبيد العنزي بفتح النون والزاي أبو موسى البصري المعروف بالزمن مشهور بكنيته وباسمه ثقة ثبت من العاشرة وكان هو وبندار فرسي رهان وماتا في سنة واحدة، ع.
محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب القرشي الزهري أبو بكر الفقيه الحافظ متفق على جلالته وإتقانه وهو من رؤوس الطبقة الرابعة مات سنة خمس وعشرين وقيل قبل ذلك بسنة أو سنتين، ع.
شعبة بن الحجاج بن الورد العتكي مولاهم أبو بسطام الواسطي ثم البصري ثقة حافظ متقن كان الثوري يقول هو أمير المؤمنين في الحديث وهو أول من فتش بالعراق عن الرجال وذب عن السنة وكان عابدا من السابعة مات سنة ستين، ع.
قيس بن مسلم الجدلي بفتح الجيم أبو عمرو الكوفي ثقة رمي بالإرجاء من السادسة مات سنة عشرين ع.
طارق بن شهاب بن عبد شمس البجلي الأحمسي أبو عبد الله الكوفي قال أبو داود رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه مات سنة اثنتين أو ثلاث وثمانين، ع.
سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الأنصاري أبو سعيد الخدري له ولأبيه صحبة واستصغر بأحد ثم شهد ما بعدها وروى الكثير مات بالمدينة سنة ثلاث أو أربع أو خمس وستين وقيل سنة أربع وسبعين،ع.
رابعا: روايات أخرى للحديث.
في رواية البخاري: عن أبي سعيد الخدري قال كان رسول الله يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول شيء يبدأ به الصلاة ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس جلوس على صفوفهم فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم فإن كان يريد أن يقطع بعثا قطعه أو يأمر بشيء أمر به ثم ينصرف. قال أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان وهو أمير المدينة في أضحى أو فطر فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي فجبذت بثوبه فجبذني فارتفع فخطب قبل الصلاة فقلت له غيرتم والله فقال أبا سعيد قد ذهب ما تعلم فقلت ما أعلم والله خير مما لا أعلم فقال إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة فجعلتها قبل الصلاة.
في رواية الترمذي قال : فقام رجل فقال : يا مروان ، خالفت السنة. فقال : يا فلان ، ترك ما هنالك. وفي رواية أبي داود: قال: يا مروان ، خالفت السنة ، أخرجت المنبر في يوم عيد، ولم يكن يخرج فيه، وبدأت بالخطبة قبل الصلاة ، فقال أبو سعيد: من هذا؟ قالوا : فلان ابن فلان ، فقال : أما هذا فقد قضى ما عليه... وذكر الحديث. وفي رواية النسائي، لم يذكر العيد والخطبة ، وهذا لفظه : أن رسول الله قال: «من رأى منكم منكرا فغيره فقد برئ ، ومن لم يستطع أن يغيره بيده ، فغيره بلسانه فقد برئ ، ومن لم يستطع أن يغيره بلسانه فغيره بقلبه فقد برئ ، وذلك أضعف الإيمان».
خامسا: شرح الحديث.
- في هذا الحديثِ يُخبِرُ التَّابعيُّ طارقُ بنُ شِهابٍ أنَّ أوَّلَ مَن قدَّمَ الخُطبةَ يومَ العيدِ فجَعَلَها قبلَ الصَّلاةِ، هو مَروانُ بنُ الحكَمِ، وكانَ واليًا على المدينةِ من قِبَلِ الخليفةِ مُعاويةَ بنِ أبي سُفيانَ رَضيَ اللهُ عنهما، ثُمَّ وَلِيَ الخلافةَ العامَّةَ في آخِرِ سَنةِ أربعٍ وسِتِّينَ، وقد ذُكِرَ أنَّ أوَّلَ مَن بدأ بالخُطبةِ قبلَ الصَّلاةِ عُثمانُ رَضيَ اللهُ عنه، وقيلَ: عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه، وقيلَ: مُعاويةُ رَضيَ اللهُ عنه، وقيلَ: عبدُ اللهِ بنُ الزُّبيرِ رَضيَ اللهُ عنهما، وذلك غيرُ صحيحٍ، فلم يَفعَله أحدٌ منَ الخُلفاءِ، بَلِ الذي ثَبَتَ عنِ النَّبيِّ ، وأبي بَكرٍ، وعُمَرَ، وعُثمانَ، وعليٍّ رَضيَ اللهُ عنهم جميعًا تَقديمُ الصَّلاةِ، كما في الصَّحيحَينِ من حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما: «شَهِدْتُ العِيدَ معَ رَسولِ اللهِ ، وأبِي بَكْرٍ، وعُمَرَ، وعُثْمانَ رَضِيَ اللهُ عنْهُم، فكُلُّهُم كانوا يُصَلُّونَ قبْلَ الخُطْبةِ».
وسببُ تَقديمِ مَروانَ الخُطبةَ قبلَ الصَّلاةِ ما جاءَ في روايةِ البُخاريِّ أنَّ مَروانَ قالَ: «إنَّ النَّاسَ لم يَكُونوا يَجلِسُونَ لنا بعدَ الصَّلاةِ، فجَعَلتُها قبْلَ الصَّلاةِ»، أي: كانُوا يَفترِقونَ بعدَ الصَّلاةِ، فلا يَبقى للخُطبةِ إلَّا القَليلُ، فبَدأ بالخُطبةِ قبلَ الصَّلاةِ؛ لئلَّا يَذهَبَ أحدٌ حتَّى تَتِمَّ الخُطبةُ والصَّلاةُ، ولعلَّ مَروانَ فَعَلَ ذلك ظنًّا منه أنَّ ذلك ممَّا يُجتهَدُ فيه. فلمَّا خالَفَ مَروانُ بنُ الحَكمِ السُّنَّةَ والثَّابتَ عن رسولِ اللهِ ، قَامَ إليه رجلٌ مِنَ الحاضرينَ، مُنكِرًا عليه تَغييرَه السُّنَّةَ، وأنَّه جَعَلَ الخُطبةَ قبلَ الصَّلاةِ، قيلَ: إنَّ هذا الرَّجلَ هو أبو مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه، كما في روايةِ عبدِ الرَّزَّاقِ، وقد وَقَعَ في روايةِ البُخاريِّ أنَّ الذي أنكَرَ على مَروانَ هو أبو سعيدٍ نفسُه، ويَحتمِلُ أنَّ القِصَّةَ وقَعَت أكثَرَ من مَرَّةٍ، وفي كلِّ مَرَّةٍ يَجِدُ مَروانُ مَن يُنكِرُ عليه، وإن كانت قِصَّةً واحِدةً فيَحتمِلُ أنَّ أبا سَعيدٍ لمَّا أخذَ بيَدِ مَروانَ وردَّ عليه -كما عندَ البُخاريِّ- قامَ إليه ذلك الرَّجلُ -أبو مسعودٍ- وعَضَدَه بقَولِه: «الصَّلاةُ قبْلَ الخُطبةِ»، فردَّ عليه مَروانُ بمِثلِ ما ردَّ به على أبي سعيدٍ، فعضَدَه أبو سعيدٍ ثانيًا، فقالَ مَروانُ مُعتذِرًا عن ذلكَ: «قدْ تُرِكَ ما هنالِكَ»، أي: تَرَكَ الناسُ استِماعَ الخُطبةِ إذا أخَّرناها عنِ الصَّلاةِ لاستِعجالِهم، ويَحتمِلُ أنَّ المعنى: قد تَرَكنا العملَ بتَقديمِ الصَّلاةِ على الخُطبةِ الذي كان هُنالك في الزَّمنِ الماضي.
فأقرَّ أبو سعيدٍ رَضيَ اللهُ عنه الرَّجلَ على إنكارِه لمَروانَ، وقالَ لِمَن حولَهُ: «أمَّا هذا» يَقصِدُ الرَّجلَ الذي أنكَرَ، «فقدْ قَضى ما عليه»، أي: قد أدَّى ما وجَبَ عليه مِنَ النَّهيِ عنِ المُنكَرِ بلسانِه، حيثُ لا يَستطيعُ الإنكارَ بيدِه؛ لكَونِ مَروانَ هو الأميرَ، ثُمَّ قالَ أبو سعيدٍ رَضيَ اللهُ عنه: «سَمِعتُ رَسولَ اللهِ يقولُ: مَن رَأى مِنكمْ»، أي: عَلِمَ وعرَفَ مِنكم أيُّها الأُمَّةُ،
«مُنكَرًا»، وهو كلُّ أفعالِ الشَّرِّ والعِصيانِ، وما خالَفَ الشَّرعَ، فليُزِل ذلك المُنكَرَ
«بِيَدِهِ» إن كانَ له قوَّةٌ وسُلطةٌ ويَحتاجُ إلى إزالتِها باليد، وجاءت نصوص كثيرة تنبّه المؤمنين على وجوب قيامهم بمسؤوليتهم الكاملة تجاه رعيتهم، فقد روى الإمام البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه سمع رسول الله يقول: (كلكم راع ومسؤول عن رعيته ، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل في أهله راع وهو مسؤول عن رعيته ، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها ، والخادم في مال سيده راع وهو مسؤول عن رعيته ، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيّته ).
«فإنْ لم يَستطِعْ» بيَدِه فليُزِلِ المُنكَرَ بلِسانِهِ، وذلكَ بالوَعظِ والتَّذكيرِ؛ وقد يقتضي المقام التصريح والتعنيف ، ولهذا جاءت في السنة أحداث ومواقف كان الإنكار فيها علناً ، كإنكار النبي على أسامة بن زيد شفاعته في حد من حدود الله ، وإنكاره على من لبس خاتم الذهب من الرجال، وغير ذلك مما تقتضي المصلحة إظهاره أمام الملأ.
فإن لم يَستطِع تَغييرَ المُنكَرِ بالقولِ واللِّسانِ، فليُنكِرْه وليَكرَهْه بقلبِه ويَعزِمْ أنَّه لو قدَرَ على إزالتِه لَفَعَلَ، «وذلكَ» أيِ: التَّغييرُ بالقلبِ «أضعَفُ الإيمانِ»، أي: أدنى خِصالِ الإيمانِ في إزالةِ المُنكَرِ، يَعني أنَّ تَغييرَ المُنكَرِ بقلبِه -وهو إنكارُه- آخِرُ خَصلةٍ منَ الخِصالِ المُتعيِّنةِ على المؤمِنِ في تَغييرِ المُنكَرِ، فلم يَبقَ بعدَها للمُؤمِنِ مَرتبةٌ أُخرى في تَغييرِه، ولذلك قالَ في روايةِ ابنِ مسعودٍ عندَ مُسلِمٍ: «وليسَ وراءَ ذلك منَ الإيمانِ حَبَّةُ خَردلٍ»،
- ظَهَرَ من هذا الحديثِ أنَّ من شَرطِ وُجوبِ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عنِ المُنكَرِ أمرَين؛ أحدُهما: العِلمُ بكَونِ ذلك الفعلِ معروفًا أو مُنكَرًا؛ لأنَّ ذلك لا يتأتَّى للجاهلِ. والثَّاني: القُدرةُ عليه؛ لأنَّه قالَ: «فإنْ لم يَستطِعْ...» إلخ، فدلَّ على أنَّ غيرَ المُستطيعِ لا يَجِبُ عليه، وإنَّما عليه أن يُنكِرَ بقلبِه.
- في الحديثِ: الأمرُ بالتَّدرُّجِ في الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عنِ المُنكَرِ، كلٌّ بحسَبِ استطاعتِه وقُدراتِه.
- وفيه: مَشروعيَّةُ الإنكارِ على وُلاةِ الأُمورِ إذا لم تَحدُث مَضرَّةٌ وكانوا يَقبَلونَ النَّصيحةَ في العلَنِ.
- وفيه: بيانُ كونِ تَغييرِ المُنكَرِ منَ الإيمانِ.
- وفيه: بيانُ أنَّ الإيمانَ يَزيدُ ويَنقُصُ.
- وفيه: أنَّ سُنَنَ الإسلامِ والعِباداتِ لا يَجوزُ تَغييرُ شيءٍ منها ولا من تَرتيبِها، وأنَّ ذلك مُنكَرٌ يَجِبُ تَغييرُه بإنكارِه ولو على المُلوكِ إذا قُدِرَ عليه ولم يَدعُ إلى مُنكَرٍ أكثَرَ منه..
بغرض تحقيق الأهداف التالية:
تحضر الطالب للتوجه نحو تخصص الكتاب والسنة .
تعميق المعارف التي كانت لدى الطالب في علم الحديث والتي حصلها في أطوار التعليم السابقة.
معرفة مناهج المحدثين في تحليل وشرح السنة النبوية .
كسب ملكة التحليل و التفكير والنظر في حديث رسول الله .
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه
مقدمة في مقياس الحديث التحليلي.
1- أهمية الاشتغال بالسنة النبوية.
- شرف العلم من شرف موضوعه وموضوعه سنة رسول الله. فهو تعبد.
- حث الرسول الناس على تبليغ سنته: نضّر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها فبلغها كما سمعها فرب مبلغ اوعى من سامع.
- السنة مصدر من مصادر التشريع في كل مسألة تقريبا فوجب على طالب العلم الشرعي الإلمام بهذا المصدر
- السنة مدخل للتأسي والاقتداء برسول الله
2- أهمية دراسة السنة النبوية وعلومها.
- هو سبيل للدفاع عن رسول الله ضد من يشكك في نبوته ورسالته لاسيما في هذا العصر (المستشرقين، الحداثيين وشبهاتهم حول علماء الحديث وحول الأسانيد).
- الوقوف على جهود العلماء في تبليغ سنة رسول الله، والجهل بذلك سبب للتنقيص من السنة.
- الفهم السليم للسنة ومعرفة المقبول من المردود. وبالتالي حسن الاستدلال بها إما في العقيدة أو الفقه.
3- تعريف الحديث التحليلي: هو أن يركز الباحث على حديث واحد و يقوم بتخريجه وبيان درجته قبولا وردا، وجمع الألفاظ التي روي بها قدر الطاقة ، وخصوصا التأليف بين الألفاظ التي تبدو متعارضة ، وبيان معاني المفردات ، والبلاغة والإعراب لما لذلك من دور في ابراز المعنى وتوضيحه. وايضا سبب الورود إن وجد لمعرفة اللفظ ما يراد به ، وبيان فقهه في ضوء النصوص الأخرى مع بيان فضله و منزلته ، ليعرج بعدها إلى آخر محطة استخراج الفوائد و الأحكام الفقهية و العقدية
4- خطوات تحليل الحديث:
أولا: تخريج الحديث بالرجوع إلى مظانه من كتب الحديث بدءً بالصحيحين ، ثم السنن الأربعة ، فموطأ مالك، فمسند الإمام أحمد .. ثم المصنفات و المستدركات و الجامع بين الصحيحين للحميدي ، وجامع الأصول، و مشكاة المصابيح للخطيب التبريزي.. و خاصة المصنفات لما تحويه من أقوال الصحابة ، و فتاوى التابعين ، و فتاوى أتباع التابعين أحيانا .
ثانيا :بيان درجة الحديث صحة و ضعفا ، وذلك بالرجوع إلى كتب التخريج المشهورة ،كتخريج أحاديث المهذب للحازمي، ونصب الراية لأحاديث الهداية للزيلعي، والبدر المنير لابن الملقن، والتلخيص الحبير لابن حجر العسقلاني...إلخ.
ثالثا :ترجمة لرواة الحديث مع ذكر مرتبته من الجرح والتعديل بشهادة علماء هذا الفن و يُستحن الرجوع إلى كتب الجرح و التعديل؛ مع ذكر أسماء شيوخ رواة الحديث و أسماء بعض تلاميذته، و في الأخير ذكر تاريخ وفياتهم..
رابعا :بيان تعدد روايات الحديث و اختلاف ألفاظه.
خامسا :ذكر نكت الحديث و لطائفه الإسنادية.
سادسا: بيان سبب ورود الحديث إن كان له سبب مع التحقق من ذلك .ومعرفة سبب الورود يعين على فهم مراده ؛ فإن العلم بالسبب يُورِث العلم بالمُسبب.
سابعا :ذكر أهمية الحديث و منزلته ، و عظم شأنه ، بسرد أقوال العلماء الدالة على ذلك.
ثامنا :بيان لغة الحديث من الناحية النحوية و البلاغية
تاسعا: شرح الحديث شرحا إجماليا من خلال بيان مقصده الأساسي، و يختلف هذا الشرح من حديث إلى آخر حسب خصوصية كل حديث .
عاشرا :ذكر فوائد الحديث، و ما يستنبط منه من أحكام وعبر.
المحاضرة الأولى: الحديث الأول: الأعمال بالنيات.
أ)- نصّ الحديث:
قال البخاري: حدثنا الحميدي عبد الله بن الزبير قال: حدثنا سفيان قال: حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري قال: أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب على المنبر قال: سمعت رسول الله يقول: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه».
ب)- تخريج الحديث:
أخرجه البخاري، كتاب الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ، رقم 01: 1/6.
وأخرجه أبو داود، كتاب الطلاق، باب فيما عنى به الطلاق والنيات، رقم 2203: 2/230.
قال: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان حدثني يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة بن وقاص الليثي قال سمعت عمر بن الخطاب بنحوه.
وأخرجه ابن ماجة، كتاب الزهد، باب النية، رقم 4227: 2/1413.
قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يزيد بن هارون، ح وحدثنا محمد بن رمح أنبأنا الليث بن سعد قالا: أنبأنا يحيى بن سعيد بن إبراهيم التيمي أخبره أنه سمع علقمة بن وقاص أنه سمع عمر بن الخطاب فذكره.
وقد ورد الحديث بلفظ: «إنما الأعمال بالنية». أخرجه النسائي، كتاب الطهارة، باب النية في الوضوء، رقم 75: 1/58. قال: أخبرنا يحيى بن حبيب بن عربي عن حماد والحرث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع عن ابن القاسم حدثني مالك ح وأخبرنا سليمان بن منصور قال: أنبأنا عبد الله بن المبارك واللفظ له عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن علقمة بن وقاص عن عمر بن الخطاب. فذكره.
وأخرجه البخاري، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا عبد الوهاب قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: أخبرني محمد بن إبراهيم أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب يقول سمعت رسول الله ، وذكره.
وأخرجه مسلم: كتاب الإمارة، باب قوله : إنما الأعمال بالنية، قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب حدثنا مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن علقمة بن وقاص عن عمر بن الخطاب...، وذكره.
طرق أخرى للحديث لم تثبت.
قال الدارقطني: "وَرَوَى هَذا الحَدِيث مالِكُ بن أَنَسٍ، واختُلِف عَنهُ، فَرَواهُ عَبد المَجِيدِ بن عَبدِ العَزِيزِ بنِ أَبِي رَوّادٍ، عَن مالِكٍ، عَن زَيدِ بنِ أَسلَم، عَن عَطاءِ بنِ يَسارٍ، عَن أَبِي سَعِيدٍ الخُدرِيِّ. وَلَم يُتابَع عَلَيهِ. وَأَمّا أَصحابُ مالِكٍ الحُفّاظُ عَنهُ، فَرَوَوهُ عَن مالِكٍ، عَن يَحيَى بنِ سَعِيدٍ، عَن مُحَمدِ بنِ إِبراهِيم، عَن عَلقَمَة بنِ وقّاصٍ، عَن عُمَر. وَهُو الصَّوابُ".
وقال ابن أبي حاتم: "وسُئِل أبِي عَن حدِيثٍ ؛ رواهُ نُوحُ بنُ حبِيبٍ، عن عَبدِ المجِيدِ بنِ عَبدِ العزِيزِ بنِ أبِي روّادٍ، عن مالِكِ بنِ أنسٍ، عن زيدِ بنِ أسلم، عن عطاءِ بنِ يسارٍ، عن أبِي سعِيدٍ الخُدرِيِّ، عنِ النّبِيِّ : «إِنّما الأعمالُ بِالنِّيّاتِ». قال أبِي: هذا حدِيثٌ باطِل، لا أصل لهُ، إِنّما هُو مالِكٌ، عن يحيى بنِ سعِيدٍ، عن مُحمّدِ بنِ إِبراهِيم التّيمِيِّ، عن علقمة بنِ وقّاصٍ، عن عُمر، عنِ النّبِيِّ ".
ج)- ترجمة الرواة:
الحميدي: عبد الله بن الزبير بن عيسى القرشي الأسدي الحميدي المكي أبو بكر ثقة حافظ فقيه، أجل أصحاب بن عيينة، من العاشرة مات بمكة سنة تسع عشرة وقيل بعدها، قال الحاكم: كان البخاري إذا وجد الحديث عند الحميدي لا يعدوه إلى غيره، روى له البخاري ومسلم وأصحاب السنن.
سفيان بن عيينة: بن أبي عمران ميمون الهلالي أبو محمد الكوفي ثم المكي، ثقة حافظ فقيه إمام حجة، إلا أنه تغير حفظه بأخرة، وكان ربما دلس، لكن عن الثقات، من رؤوس الطبقة الثامنة، وكان أثبت الناس في عمرو بن دينار، مات في رجب سنة ثمان وتسعين وله إحدى وتسعون سنة، روى له الجماعة.
يحيى بن سعيد: بن قيس الأنصاري المدني أبو سعيد القاضي، ثقة ثبت، من الخامسة، مات سنة أربع وأربعين أو بعدها، روى له الجماعة.
محمد بن إبراهيم: بن الحارث بن خالد التيمي، أبو عبد الله المدني، ثقة له أفراد، من الرابعة، مات سنة عشرين على الصحيح، روى له الجماعة.
علقمة بن وقاص: بتشديد القاف الليثي المدني، ثقة ثبت، من الثانية، أخطأ من زعم أن له صحبة، وقيل: إنه ولد في عهد النبي ، مات في خلافة عبد الملك، روى له الجماعة.
عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد: بفتح الراء وتشديد الواو، صدوق يخطئ، وكان مرجئا، أفرط بن حبان فقال: متروك، من التاسعة، مات سنة ست ومائتين، روى له مسلم وأصحاب السنن.
د)- تحليل الحديث:
1- سبب ورود الحديث:
قيل: ورد الحديث في رجل يقال له مُهَاجِر أُمّ قَيْس، وقصته رَوَاهَا سَعِيد مِنْ مَنْصُور قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَنْ الْأَعْمَش عَنْ شَقِيق عَنْ عَبْد اللَّه - هُوَ اِبْن مَسْعُود - قَالَ: مَنْ هَاجَرَ يَبْتَغِي شَيْئًا فَإِنَّمَا لَهُ ذَلِكَ, هَاجَرَ رَجُل لِيَتَزَوَّج اِمْرَأَة يُقَال لَهَا أُمّ قَيْس فَكَانَ يُقَال لَهُ مُهَاجِر أُمّ قَيْس.
2- فضل الحديث:
قال المباركفوري: "اتفق عبد الرحمن بن مهدي والشافعي فيما نقله البويطي عنه وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني وأبو داود والترمذي والدارقطني وحمزة الكناني على أنه ثلث الاسلام، ومنهم من قال: ربعه، واختلفوا في تعيين الباقي. وقال ابن مهدي أيضا: يدخل في ثلاثين بابا من العلم. وقال الشافعي: يدخل في سبعين بابا. ويحتمل أن يريد بهذا العدد المبالغة. وقال عبد الرحمن بن مهدي أيضا: ينبغي أن يجعل هذا الحديث رأس كل باب. ووجه البيهقي كونه ثلث العلم بأن كسب العبد يقع بقلبه ولسانه وجوارحه، فالنية أحد أقسامها الثلاثة، وأرجحها، لأنها قد تكون عبادة مستقلة وغيرها يحتاج إليها، ومن ثم ورد: نية المؤمن خير من عمله. فإذا نظرت إليها كانت خير الأمرين. وكلام الامام أحمد يدل على أنه أراد بكونه ثلث العلم أنه أحد القواعد الثلاث التي ترد إليها جميع الأحكام عنده. وهي هذا، ومن عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد، والحلال بين والحرام بين...".
3- الشرح اللغوي:
- قوله: «إنما الأعمال بالنيات»، هذا التركيب يفيد الحصر عند المحققين، واختلف في وجه إفادته فقيل: لأن الأعمال جمع محلى بالألف واللام مفيد للاستغراق، وهو مستلزم للقصر، لأن معناه كل عمل بنية فلا عمل إلا بنية.
- الْأَعْمَال: تَقْتَضِي عَامِلَيْنِ, وَالتَّقْدِير: الْأَعْمَال الصَّادِرَة مِنْ الْمُكَلَّفِينَ, والْمُرَاد بِالْأَعْمَالِ أَعْمَال الْعِبَادَة وَهِيَ لَا تَصِحّ مِنْ الْكَافِر وَإِنْ كَانَ مُخَاطَبًا بِهَا مُعَاقَبًا عَلَى تَرْكهَا وَلَا يُرَدّ الْعِتْق وَالصَّدَقَة لِأَنَّهُمَا بِدَلِيلٍ آخَر.
- قَوْله: (بِالنِّيَّاتِ) الْبَاء لِلْمُصَاحَبَةِ, وَيُحْتَمَل أَنْ تَكُون لِلسَّبَبِيَّةِ بِمَعْنَى أَنَّهَا مُقَوِّمَة لِلْعَمَلِ فَكَأَنَّهَا سَبَب فِي إِيجَاده, قَالَ النَّوَوِيّ: النِّيَّة الْقَصْد, وَهِيَ عَزِيمَة الْقَلْب. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاء هَلْ هِيَ رُكْن أَوْ شَرْط ؟ وَالْمُرَجَّح أَنَّ إِيجَادهَا ذِكْرًا فِي أَوَّل الْعَمَل رُكْن, وَاسْتِصْحَابهَا حُكْمًا بِمَعْنَى أَنْ لَا يَأْتِي بِمُنَافٍ شَرْعًا شَرْطٌ. وَلَا بُدّ مِنْ مَحْذُوف يَتَعَلَّق بِهِ الْجَارّ وَالْمَجْرُور, فَقِيلَ تُعْتَبَر وَقِيلَ تُكَمِّل وَقِيلَ تَصِحّ وَقِيلَ تَحْصُل وَقِيلَ تَسْتَقِرّ .وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ: النِّيَّة عِبَارَة عَنْ اِنْبِعَاث الْقَلْب نَحْو مَا يَرَاهُ مُوَافِقًا لِغَرَضٍ مِنْ جَلْب نَفْع أَوْ دَفْع ضُرّ حَالًا أَوْ مَآلًا, وَالشَّرْع خَصَّصَهُ بِالْإِرَادَةِ الْمُتَوَجِّهَة نَحْو الْفِعْل لِابْتِغَاءِ رِضَاء اللَّه وَامْتِثَال حُكْمه. وَالنِّيَّة فِي الْحَدِيث مَحْمُولَة عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيّ لِيَحْسُن تَطْبِيقه عَلَى مَا بَعْده وَتَقْسِيمه أَحْوَال الْمُهَاجِر, فَإِنَّهُ تَفْصِيل لِمَا أُجْمِلَ.
- (وإنما لكل امرئ ما نوى): قَالَ اِبْن عَبْد السَّلَام: "الْجُمْلَة الْأُولَى لِبَيَانِ مَا يُعْتَبَر مِنْ الْأَعْمَال, وَالثَّانِيَة لِبَيَانِ مَا يَتَرَتَّب عَلَيْهَا. وَأَفَادَ أَنَّ النِّيَّة إِنَّمَا تُشْتَرَط فِي الْعِبَادَة الَّتِي لَا تَتَمَيَّز بِنَفْسِهَا, وَأَمَّا مَا يَتَمَيَّز بِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَنْصَرِف بِصُورَتِهِ إِلَى مَا وُضِعَ لَهُ كَالْأَذْكَارِ وَالْأَدْعِيَة وَالتِّلَاوَة لِأَنَّهَا لَا تَتَرَدَّد بَيْن الْعِبَادَة وَالْعَادَة".
- قَوْله: ( هِجْرَته) الْهِجْرَة: التَّرْك, وَالْهِجْرَة إِلَى الشَّيْء: الِانْتِقَال إِلَيْهِ عَنْ غَيْره . وَفِي الشَّرْع: تَرْك مَا نَهَى اللَّه عَنْهُ وَقَدْ وَقَعَتْ فِي الْإِسْلَام عَلَى وَجْهَيْنِ: الْأَوَّل الِانْتِقَال مِنْ دَار الْخَوْف إِلَى دَار الْأَمْن كَمَا فِي هِجْرَتَيْ الْحَبَشَة وَابْتِدَاء الْهِجْرَة مِنْ مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة , الثَّانِي الْهِجْرَة مِنْ دَار الْكُفْر إِلَى دَار الْإِيمَان وَذَلِكَ بَعْد أَنْ اِسْتَقَرَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ وَهَاجَرَ إِلَيْهِ مَنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَكَانَتْ الْهِجْرَة إِذْ ذَاكَ تَخْتَصّ بِالِانْتِقَالِ إِلَى الْمَدِينَة , إِلَى أَنْ فُتِحَتْ مَكَّة فَانْقَطَعَ مِنْ الِاخْتِصَاص , وَبَقِيَ عُمُوم الِانْتِقَال مِنْ دَار الْكُفْر لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ بَاقِيًا .
- قوْله: (إِلَى دُنْيَا) بِضَمِّ الدَّال, وَحَكَى اِبْن قُتَيْبَة كَسْرهَا , وَهِيَ فُعْلَى مِنْ الدُّنُوّ أَيْ: الْقُرْب , سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِسَبْقِهَا لِلْأُخْرَى . وَقِيلَ: سُمِّيَتْ دُنْيَا لِدُنُوِّهَا إِلَى الزَّوَال .
- قَوْله: (يُصِيبهَا) أَيْ يُحَصِّلهَا ; لِأَنَّ تَحْصِيلهَا كَإِصَابَةِ الْغَرَض بِالسَّهْمِ بِجَامِعِ حُصُول الْمَقْصُود .
- قَوْله: (فَهِجْرَته إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ) يُحْتَمَل أَنْ يَكُون ذَكَرَهُ بِالضَّمِيرِ لِيَتَنَاوَل مَا ذُكِرَ مِنْ الْمَرْأَة وَغَيْرهَا, وَإِنَّمَا أَبْرَزَ الضَّمِير فِي الْجُمْلَة الَّتِي قَبْلهَا وَهِيَ الْمَحْذُوفَة لِقَصْدِ الِالْتِذَاذ بِذِكْرِ اللَّه وَرَسُوله وَعِظَم شَأْنهمَا , بِخِلَافِ الدُّنْيَا وَالْمَرْأَة فَإِنَّ السِّيَاق يُشْعِر بِالْحَثِّ عَلَى الْإِعْرَاض عَنْهُمَا ... وَإِنَّمَا أَشْعَرَ السِّيَاق بِذَمِّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ طَلَبَ الْمَرْأَة بِصُورَةِ الْهِجْرَة الْخَالِصَة , فَأَمَّا مَنْ طَلَبَهَا مَضْمُومَة إِلَى الْهِجْرَة فَإِنَّهُ يُثَاب عَلَى قَصْد الْهِجْرَة لَكِنْ دُون ثَوَاب مَنْ أَخْلَصَ.
4- الأحكام المستفادة.
- اخْتَارَ الْغَزَالِيّ فِيمَا يَتَعَلَّق بِالثَّوَابِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْقَصْد الدُّنْيَوِيّ هُوَ الْأَغْلَب لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَجْر , أَوْ الدِّينِيّ أُجِرَ بِقَدْرِهِ, وَإِنْ تَسَاوَيَا فَتَرَدَّدَ الْقَصْد بَيْن الشَّيْئَيْنِ فَلَا أَجْر. وَأَمَّا إِذَا نَوَى الْعِبَادَة وَخَالَطَهَا بِشَيْءٍ مِمَّا يُغَايِر الْإِخْلَاص. فَقَدْ نَقَلَ أَبُو جَعْفَر بْن جَرِير الطَّبَرِيّ عَنْ جُمْهُور السَّلَف أَنَّ الِاعْتِبَار بِالِابْتِدَاءِ , فَإِنْ كَانَ اِبْتِدَاؤُهُ لِلَّهِ خَالِصًا لَمْ يَضُرَّهُ مَا عَرَضَ لَهُ بَعْد ذَلِكَ مِنْ إِعْجَاب أَوْ غَيْره.
- وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيث عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز الْإِقْدَام عَلَى الْعَمَل قَبْل مَعْرِفَة الْحُكْم ; لِأَنَّ فِيهِ أَنَّ الْعَمَل يَكُون مُنْتَفِيًا إِذَا خَلَا عَنْ النِّيَّة , وَلَا يَصِحّ نِيَّة فِعْل الشَّيْء إِلَّا بَعْد مَعْرِفَة الْحُكْم
- وَعَلَى أَنَّ الْغَافِل لَا تَكْلِيف عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْقَصْد يَسْتَلْزِم الْعِلْم بِالْمَقْصُودِ وَالْغَافِل غَيْر قَاصِد.
- وَعَلَى أَنَّ مَنْ صَامَ تَطَوُّعًا بِنِيَّةٍ قَبْل الزَّوَال أَنْ لَا يُحْسَبَ لَهُ إِلَّا مِنْ وَقْت النِّيَّة وَهُوَ مُقْتَضَى الْحَدِيث, لَكِنْ تَمَسَّكَ مَنْ قَالَ بِانْعِطَافِهَا بِدَلِيلٍ آخَر , وَنَظِيره حَدِيث " مَنْ أَدْرَكَ مِنْ الصَّلَاة رَكْعَة فَقَدْ أَدْرَكَهَا " أَيْ: أَدْرَكَ فَضِيلَة الْجَمَاعَة أَوْ الْوَقْت , وَذَلِكَ بِالِانْعِطَافِ الَّذِي اِقْتَضَاهُ فَضْل اللَّه تَعَالَى
- وَعَلَى أَنَّ الْوَاحِد الثِّقَة إِذَا كَانَ فِي مَجْلِس جَمَاعَة ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ ذَلِكَ الْمَجْلِس شَيْئًا لَا يُمْكِن غَفْلَتهمْ عَنْهُ وَلَمْ يَذْكُرهُ غَيْره أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدَح فِي صِدْقه , خِلَافًا لِمَنْ أُعِلَّ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ عَلْقَمَة ذَكَرَ أَنَّ عُمَر خَطَبَ بِهِ عَلَى الْمِنْبَر ثُمَّ لَمْ يَصِحّ مِنْ جِهَة أَحَد عَنْهُ غَيْر عَلْقَمَة .
- وَاسْتُدِلَّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّ مَا لَيْسَ بِعَمَلٍ لَا تُشْتَرَط النِّيَّة فِيهِ , وَمِنْ أَمْثِلَة ذَلِكَ جَمْع التَّقْدِيم فَإِنَّ الرَّاجِح مِنْ حَيْثُ النَّظَر أَنَّهُ لَا يُشْتَرَط لَهُ نِيَّة ,
- وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْعَمَل إِذَا كَانَ مُضَافًا إِلَى سَبَب وَيَجْمَع مُتَعَدِّده جِنْس أَنَّ نِيَّة الْجِنْس تَكْفِي , كَمَنْ أَعْتَقَ عَنْ كَفَّارَة وَلَمْ يُعَيِّن كَوْنهَا عَنْ ظِهَار أَوْ غَيْره ; لِأَنَّ مَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ الْأَعْمَال بِنِيَّاتِهَا , وَالْعَمَل هُنَا الْقِيَام بِاَلَّذِي يَخْرَج عَنْ الْكَفَّارَة اللَّازِمَة وَهُوَ غَيْر مُحْوِج إِلَى تَعْيِين سَبَب , وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَة - وَشَكَّ فِي سَبَبهَا - أَجْزَأَهُ إِخْرَاجهَا بِغَيْرِ تَعْيِين .
- وَفِيهِ زِيَادَة النَّصّ عَلَى السَّبَب ; لِأَنَّ الْحَدِيث سِيقَ فِي قِصَّة الْمُهَاجِر لِتَزْوِيجِ الْمَرْأَة , فَذِكْر الدُّنْيَا فِي الْقِصَّة زِيَادَة فِي التَّحْذِير وَالتَّنْفِير. وَقَالَ شَيْخنَا شَيْخ الْإِسْلَام: فِيهِ إِطْلَاق الْعَامّ وَإِنْ كَانَ سَبَبه خَاصًّا , فَيُسْتَنْبَط مِنْهُ الْإِشَارَة إِلَى أَنَّ الْعِبْرَة بِعُمُومِ اللَّفْظ لَا بِخُصُوصِ السَّبَب.
المحاضرة الثانية: حديث جبريل
1- نص الحديث:
قال الإمام مسلم: حَدَّثَنِي أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ كَهْمَسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ ح و حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ وَهَذَا حَدِيثُهُ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا كَهْمَسٌ عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ قَالَ كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَالَ فِي الْقَدَرِ بِالْبَصْرَةِ مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيُّ حَاجَّيْنِ أَوْ مُعْتَمِرَيْنِ فَقُلْنَا لَوْ لَقِينَا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ فَسَأَلْنَاهُ عَمَّا يَقُولُ هَؤُلَاءِ فِي الْقَدَرِ فَوُفِّقَ لَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ دَاخِلًا الْمَسْجِدَ فَاكْتَنَفْتُهُ أَنَا وَصَاحِبِي أَحَدُنَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ فَظَنَنْتُ أَنَّ صَاحِبِي سَيَكِلُ الْكَلَامَ إِلَيَّ فَقُلْتُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ قِبَلَنَا نَاسٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَتَقَفَّرُونَ الْعِلْمَ وَذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ وَأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنْ لَا قَدَرَ وَأَنَّ الْأَمْرَ أُنُفٌ قَالَ فَإِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَوْ أَنَّ لِأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ مَا قَبِلَ اللَّهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ ثُمَّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ وَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنْ الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنْ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا قَالَ صَدَقْتَ قَالَ فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ قَالَ فَأَخْبِرْنِي عَنْ الْإِيمَانِ قَالَ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ قَالَ صَدَقْتَ قَالَ فَأَخْبِرْنِي عَنْ الْإِحْسَانِ قَالَ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ قَالَ فَأَخْبِرْنِي عَنْ السَّاعَةِ قَالَ مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ قَالَ فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا قَالَ أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ قَالَ ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا ثُمَّ قَالَ لِي يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنْ السَّائِلُ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ.
2- تخريج الحديث:
أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله سبحانه وتعالى وبيان الدليل على التبري ممن لا يؤمن بالقدر وإغلاظ القول في حقه،01.
أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة وبيان النبي له ثم قال جاء جبريل عليه السلام يعلمكم دينكم فجعل ذلك كله دينا وما بين النبي لوفد عبد القيس من الإيمان وقوله تعالى{ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه}، رقم 50.
وأخرجه أبو داود، كتاب السنة باب القدر، حديث 4679. وأخرجه الترمذي، كتاب الإيمان، ما جاء في وصف جبريل للنبي الإيمان والإسلام، رقم 261وأخرجه النسائي، كتاب الإيمان، باب نعت الإسلام، رقم 4990.
3- ترجمة الرواة:
- زهير بن حرب بن شداد أبو خثيمة النسائي نزيل بغداد ثقة ثبت روى عنه مسلم أكثر من ألف حديث من العاشرة مات سنة أربع وثلاثين وهو بن أربع وسبعين، روى له الشيخان وأبو دواد والنسائي وابن ماجة.
- وكيع بن الجراح بن مليح الرؤاسي بضم الراء وهمزة ثم مهملة أبو سفيان الكوفي ثقة حافظ عابد من كبار التاسعة مات في آخر سنة ست وأول سنة سبع وتسعين وله سبعون سنة، روى له الجماعة.
- كهمس بن الحسن التميمي أبو الحسن البصري ثقة من الخامسة مات سنة تسع، روى له الجماعة.
- عبد الله بن بريدة بن الحصيب الأسلمي أبو سهل المروزي قاضيها ثقة من الثالثة مات سنة خمس ومائة وقيل بل خمس عشرة وله مائة سنة، روى له الجماعة.
- يحيى بن يعمر بفتح التحتانية والميم بينهما مهملة البصري نزيل مرو وقاضيها ثقة فصيح وكان يرسل من الثالثة مات قبل المائة وقيل بعدها، روى له الجماعة.
- عبيد الله بن معاذ بن معاذ بن نصر بن حسان العنبري أبو عمرو البصري ثقة حافظ رجح بن معين أخاه المثنى عليه من العاشرة مات سنة سبع وثلاثين، روى له الشيخان وأبو داود والنسائي.
- معاذ بن معاذ بن نصر بن حسان العنبري أبو المثنى البصري القاضي ثقة متقن من كبار التاسعة مات سنة ست وتسعين، روى له الجماعة.
4- أهمية الحديث:
قال القاضي عياض رحمه الله: "وهذا الحديث قد اشتمل على شرح جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة من عقود الايمان وأعمال الجوارح وإخلاص السرائر والتحفظ من آفات الأعمال حتى أن علوم الشريعة كلها راجعة إليه ومتشعبة منه".
5- مفردات الحديث:
- القدر: مصدر، تقول قدرت الشيء -بتخفيف الدال وفتحها-، أقدره -بالكسر والفتح- قدرا وقدرا، إذا أحطت بمقداره، والمراد أن الله تعالى علم مقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد ما سبق في علمه أنه يوجد فكل محدث صادر عن علمه وقدرته وإرادته.
- أَوَّل مَنْ قَالَ فِي الْقَدَرِ، أي تكلم في القدر، ويسمون القدرية، وهي فرقة كلامية تنتسب إلى الإسلام، وتعدّ من أول الفرق الإسلامية المخالفة وقد ظهرت في بداية عهد الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز، أول من قال بالقدر هو معبد الجهني البصري في آواخر عهد الصحابة، وأخذ عنه غيلان الدمشقي، وقد قتله الخليفة هشام بن عبد الملك بصلبه على أبواب الشام، ورأي هؤلاء أن الله لا يعلم شيئا إلا بعد وقوعه وإن الأحداث بمشيئة البشر وليست بمشيئة الله، وتقول: لا قدر والأمر أنف أي مستأنف، وهو نفي لعلم الله السابق، وأن الله لا يعلم الأشياء إلا بعد حدوثها.
- فَاكْتَنَفْتُهُ: أي أحطنا به.
- يَتَقَفَّرُونَ الْعِلْمَ (يتتبعون دقائقه وشبهاته)
- أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ: من البراءة، أي المعاداة وعدم الموالاة، وتجب فيمن أنكر معلوما من الدين بالضرورة.
- "حتى جلس إلى النبي فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه": في رواية لسليمان التيمي: "ليس عليه سحناء السفر وليس من البلد فتخطى حتى برك بين يدي النبي كما يجلس أحدنا في الصلاة ثم وضع يده على ركبتي النبي "، وكذا في حديث بن عباس وأبي عامر الأشعري: "ثم وضع يده على ركبتي النبي " فأفادت هذه الرواية أن الضمير في قوله على فخذيه يعود على النبي .
- الإحسان: هو مصدر، تقول أحسن يحسن إحسانا، ويتعدى بنفسه وبغيره، تقول: أحسنت كذا إذا أتقنته، وأحسنت إلى فلان، إذا أوصلت إليه النفع، والأول هو المراد لأن المقصود إتقان العبادة.
- يتطاولون: يتفاخرون به.
- الحفاة العراة رعاة الشاء: المراد بهم أهل البادية، كما في رواية سليمان التيمي وغيره، قال: ما الحفاة العراة؟، قال: العُريب".
6- الأحكام المستفادة:
- يستفاد من قول الراوي "بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ذَاتَ يَوْمٍ"، وفي رواية أبي فروة: "كان رسول الله يجلس بين أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو فطلبنا إليه أن نجعل له مجلسا يعرفه الغريب إذا أتاه قال فبنينا له دكانا من طين كان يجلس عليه"، يستفاد منه استحباب جلوس العالم بمكان يختص به ويكون مرتفعا إذا أحتاج لذلك لضرورة تعليم ونحوه
- يستحب للداخل أن يعمم بالسلام ثم يخصص من يريد تخصيصه، كما ورد في بعض الروايات قول جبريل: " السلام عليك يا محمد."
- في تقديم السؤال عن الإيمان في الرواية المشهورة قبل غيره دليل على أنه الأصل وثنى بالإسلام لأنه يظهر مصداق الدعوى وثلث بالإحسان لأنه متعلق بهما.
- أجمل الحديث الإيمان بالله عز وجل وهو يشمل توحيده بربوبيَّته الإقرارُ بأنَّه واحد في أفعاله، لا شريك له فيها، كالخَلق والرَّزق والإحياء والإماتة، وتوحيد الألوهيَّة توحيده بأفعال العباد، كالدعاء والخوف والرَّجاء والتوكُّل والاستعانة والاستعاذة والاستغاثة والذَّبح والنَّذر، وتوحيد الأسماء والصفات، فهو إثبات كلِّ ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله من الأسماء والصفات.
- دل الإجمال في الملائكة والكتب والرسل على الاكتفاء بذلك في الإيمان بهم من غير تفصيل الا من ثبت تسميته فيجب الإيمان به على التعيين.
- قوله: "واليوم الآخر"، قيل: ذكر الآخر تأكيدا كقولهم أمس الذاهب، وقيل: لأن البعث وقع مرتين، الأولى الإخراج من العدم إلى الوجود أو من بطون الأمهات بعد النطفة والعلقة إلى الحياة الدنيا والثانية البعث من بطون القبور إلى محل الاستقرار، وأما اليوم الآخر فقيل له ذلك لأنه آخر أيام الدنيا أو آخر الأزمنة المحدودة، والمراد بالإيمان به والتصديق بما يقع فيه من الحساب والميزان والجنة والنار.
- الحكمة في إعادة لفظ "وتؤمن" عند ذكر البعث الإشارة إلى أنه نوع آخر مما يؤمن به؛ لأن البعث سيوجد بعد. وما ذكر قبله موجود الآن، وللتنويه بذكره لكثرة من كان ينكره من الكفار ولهذا كثر تكراره في القرآن وهكذا الحكمة في إعادة لفظ وتؤمن عند ذكر القدر كأنها أشارة إلى ما يقع فيه من الاختلاف فحصل الاهتمام بشأنه بإعادة "تؤمن".
- قوله: "متى الساعة"، أي متى تقوم الساعة قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، قال النووي: "يستنبط منه أن العالم إذا سئل عما لا يعلم يصرح بأنه لا يعلمه ولا يكون في ذلك نقص من مرتبته بل يكون ذلك دليلا على مزيد ورعه. وقال القرطبي: "مقصود هذا السؤال كف السامعين عن السؤال عن وقت الساعة لأنهم قد أكثروا السؤال عنها كما ورد في كثير من الآيات والأحاديث فلما حصل الجواب بما ذكر هنا حصل اليأس من معرفتها بخلاف الأسئلة الماضية فإن المراد بها استخراج الأجوبة ليتعلمها السامعون ويعملوا بها ونبه بهذه الأسئلة على تفصيل ما يمكن معرفته مما لا يمكن".
- دل الحديث أن الساعة يقرب قيامها عند انعكاس الأمور بحيث يصير المربى مربيا والسافل عاليا وهو مناسب لقوله في العلامة الأخرى "أن تصير الحفاة ملوك الأرض"، وفُسِّر بأنَّه إشارة إلى كثرة الفتوحات وكثرة السبي، وأن من المسْبيات مَن يطؤها سيِّدُها فتلد له، فتكون أمَّ ولد، ويكون ولدها بمنزلة سيِّدها، وفسِّر بتغير الأحوال وحصول العقوق من الأولاد لآبائهم وأمَّهاتهم وتسلُّطهم عليهم، حتى يكون الأولاد كأنَّهم سادة لآبائهم وأمَّهاتهم.
قال القرطبي: "المقصود الإخبار عن تبدل الحال بأن يستولى أهل البادية على الأمر ويتملكوا البلاد بالقهر فتكثر أموالهم وتنصرف هممهم إلى تشييد البنيان والتفاخر به وقد شاهدنا ذلك في هذه الأزمان ومنه الحديث الآخر" "لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع"، ومنه: "إذا وسد الأمر أي أسند إلى غير أهله فانتظروا الساعة".
- قال ابن المنير: في قوله: "يعلمكم دينكم" دلالة على أن السؤال الحسن يسمى علما وتعليما، لأن جبريل لم يصدر منه سوى السؤال، ومع ذلك فقد سماه معلما، وقد اشتهر قولهم: حسن السؤال نصف العلم.
- دل الحديث على أن الملائكةَ تتحوَّل عن خِلقتِها، وتأتي بأشكال الآدميِّين.
- دل الحديث على التفاوت بين الإسلام والإيمان والإحسان، وعلى علوِّ درجة الإحسان باعتباره ذروة الإيمان، والله أعلم.
المحاضرة الثالثة: حديث الشبهات، والموقف منها.
أ)- نصّ الحديث:
قال البخاري: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ، عَنْ عَامِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " الحَلاَلُ بَيِّنٌ، وَالحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى المُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ: كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ، أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ ".
وقال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو فَرْوَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي فَرْوَةَ، سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ، سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي فَرْوَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الحَلاَلُ بَيِّنٌ، وَالحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ، فَمَنْ تَرَكَ مَا شُبِّهَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ، كَانَ لِمَا اسْتَبَانَ أَتْرَكَ، وَمَنِ اجْتَرَأَ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنَ الإِثْمِ، أَوْشَكَ أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ، وَالمَعَاصِي حِمَى اللَّهِ مَنْ يَرْتَعْ حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ».
ب)- تخريج الحديث:
رواه البخاري باللفظ الأول، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، رقم 52.
ورواه باللفظ الثاني، كتاب البيوع، باب الحلال بين والحرام بين وبينهما مشبهات، رقم 2051.
ج)- ترجمة رجال الإسناد:
الفضل بن دكين: الكوفي واسم دكين عمرو بن حماد بن زهير التيمي مولاهم الأحول أبو نعيم الملائي بضم الميم مشهور بكنيته ثقة ثبت من التاسعة مات سنة ثماني عشرة وقيل تسع عشرة وكان مولده سنة ثلاثين وهو من كبار شيوخ البخاري، روى له الجماعة.
زكريا بن أبي زائدة: خالد ويقال هبيرة بن ميمون بن فيروز الهمداني الوادعي أبو يحيى الكوفي ثقة وكان يدلس وسماعه من أبي إسحاق بأخرة من السادسة مات سنة سبع أو ثمان أو تسع وأربعين روى له الجماعة.
عامر بن شراحيل: الشعبي بفتح المعجمة أبو عمرو ثقة مشهور فقيه فاضل من الثالثة قال مكحول ما رأيت أفقه منه مات بعد المائة وله نحو من ثمانين، روى له الجماعة.
النعمان بن بشير: بن سعد بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي له ولأبويه صحبة ثم سكن الشام ثم ولي إمرة الكوفة ثم قتل بحمص سنة خمس وستين وله أربع وستون سنة، روى له الجماعة.
وقد دخل النعمان الكوفة وولي إمرتها، وزاد مسلم والإسماعيلي من طريق زكريا فيه: وأهوى النعمان بأصبعه إلى أذنيه يقول سمعت رسول الله يقول، وفي هذا رد لقول الواقدي ومن تبعه أن النعمان لا يصح سماعه من رسول الله . وفيه دليل على صحة تحمل الصبي المميز؛ لأن النبي مات وللنعمان ثمان سنين.
د)- حكم الحديث:
الحديث صحيح لاشك، وأما علة التدليس، فزكرياء موصوف بالتدليس، وجاء في فوائد ابن أبي الهيثم من طريق يزيد بن هارون عن زكريا: حدثنا الشعبي، فحصل الأمن من تدليسه.
ه)- فضل الحديث:
عظم العلماء أمر هذا الحديث فعدوه رابع أربعة تدور عليها الأحكام كما نقل عن أبي داود وفيه البيتان المشهوران وهما:
عمدة الدين عندنا كلمات مسندات من قول خير البرية
أترك المشبهات وازهد ودع ما ليس يعنيك واعملن بنيه
وأشار ابن العربي إلى أنه يمكن أن ينتزع منه وحده جميع الأحكام، قال القرطبي: "لأنه أشتمل على التفصيل بين الحلال وغيره وعلى تعلق جميع الأعمال بالقلب، فمن هنا يمكن أن ترد جميع الأحكام إليه".
و)- شرح المفردات:
(الحلال بين): بتشديد الياء المكسورة أي واضح لا يخفي حله بأن ورد نص على حله أو مهد أصل يمكن استخراج الجزئيات منه.
(والحرام بين): أي ظاهر لا تخفى حرمته بأن ورد نص على حرمته كالفواحش والمحارم والميتة والدم ونحوها أو مهد ما يستخرج منه نحو كل مسكر حرام.
(مُشبَهات): بوزن مفعلات بتشديد العين المفتوحة أي شبهت بغيرها مما لم يتبين به حكمها على التعيين. وفي رواية الأصيلي (مشتبهات) بوزن مفتعلات، والمعنى أنها موحدة اكتسبت الشبه من وجهين متعارضين ورواه الدارمي عن أبي نعيم شيخ البخاري فيه بلفظ وبينهما (متشابهات).
(استبرأ): استبرأ بالهمز بوزن استفعل من البراءة أي برأ دينه من النقص وعرضه من الطعن فيه لأن من لم يعرف باجتناب الشبهات لم يسلم لقول من يطعن فيه
(الحمى): بكسر المهملة وفتح ميم مخففة وهو المرعى الذي يحميه السلطان من أن يرتع منه غير رعاة دوابه.
( يوشك أن يواقعه ) أي يقرب أن يقع في الحمى قال ابن حجر: "في اختصاص التمثيل بذلك نكتة وهي أن ملوك العرب كانوا يحمون لمراعي مواشيهم أماكن مختصة يتوعدون من يرعى فيها بغير إذنهم بالعقوبة الشديدة فمثل لهم النبي صلى الله عليه و سلم بما هو مشهور عندهم فالخائف من العقوبة المراقب لرضا الملك يبعد عن ذلك الحمى خشية أن تقع مواشيه في شيء منه فبعده أسلم له ولو اشتد حذره".
والمعنى أن الحلال حيث يخشى أن يؤول فعله مطلقا إلى مكروه أو محرم ينبغي اجتنابه كالإكثار مثلا من الطيبات فأنه يحوج إلى كثرة الاكتساب الموقع في أخذ ما لا يستحق أو يفضى إلى بطر النفس وأقل ما فيه الاشتغال عن مواقف العبودية وهذا معلوم بالعادة مشاهد بالعيان.
(مضغة) أي قدر ما يمضغ وعبر بها هنا عن مقدار القلب في الرؤية وسمي القلب قلبا لتقلبه في الأمور أو لأنه خالص ما في البدن وخالص كل شيء قلبه أو لأنه وضع في الجسد مقلوبا.
ي)- الأحكام المستفادة:
- في الحديث دليل على أن من لم يتوق الشبهة في كسبه ومعاشه فقد عرض نفسه للطعن فيه.
- فيه إشارة إلى المحافظة على أمور الدين ومراعاة المروءة.
- اختلف في حكم الشبهات فقيل: التحريم وهو مردود وقيل: الكراهة وقيل: الوقف.
- حاصل ما فسر به العلماء الشبهات أربعة أشياء أحدها تعارض الأدلة كما تقدم. ثانيها: اختلاف العلماء وهي منتزعة من الأولى ثالثها: أن المراد بها مسمى المكروه لأنه يجتذبه جانبا الفعل والترك. رابعها: أن المراد بها المباح. ولا يمكن قائل هذا أن يحمله على متساوي الطرفين من كل وجه بل يمكن حمله على ما يكون من قسم خلاف الأولى بأن يكون متساوي الطرفين باعتبار ذاته راجح الفعل أو الترك باعتبار أمر خارج.
ونقل ابن المنير في مناقب شيخه القباري عنه أنه كان يقول: المكروه عقبة بين العبد والحرام فمن استكثر من المكروه تطرق إلى الحرام والمباح عقبة بينه وبين المكروه فمن استكثر منه تطرق إلى المكروه.
ولا يخفى أن المستكثر من المكروه تصير فيه جرأة على ارتكاب المنهي في الجملة أو يحمله اعتياده ارتكاب المنهي غير المحرم على ارتكاب المنهي المحرم إذا كان من جنسه أو يكون ذلك لشبهة فيه وهو أن من تعاطى ما نهى عنه يصير مظلم القلب لفقدان نور الورع فيقع في الحرام ولو لم يختر الوقوع فيه.
- المراد بالمحارم فعل المنهي المحرم أو ترك المأمور الواجب ولهذا وقع في رواية أبي فروة التعبير بالمعاصي بدل المحارم وقوله الا للتنبيه على صحة ما بعدها وفي اعادتها وتكريرها دليل على عظم شأن مدلولها.
- في الحديث تنبيه على تعظيم قدر القلب والحث على صلاحه والإشارة إلى أن لطيب الكسب أثرا فيه والمراد المتعلق به من الفهم الذي ركبه الله فيه
- يستدل به على أن العقل في القلب ومنه قوله تعالى فتكون لهم قلوب يعقلون بها وقوله تعالى إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب قال المفسرون أي عقل وعبر عنه بالقلب لأنه محل استقراره.
- من أمثلة الشبهات ما رواه البخاري قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ جَاءَتْ فَزَعَمَتْ أَنَّهَا أَرْضَعَتْهُمَا، فَذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، وَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ، وَقَدْ كَانَتْ تَحْتَهُ ابْنَةُ أَبِي إِهَابٍ التَّمِيمِيِّ».
ومثال آخر رواه البخاري قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ مِنِّي فَاقْبِضْهُ، قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ عَامَ الفَتْحِ أَخَذَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَقَالَ: ابْنُ أَخِي قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ، فَقَامَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، فَقَالَ: أَخِي، وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَتَسَاوَقَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْنُ أَخِي كَانَ قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ، فَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: أَخِي، وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ»، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ» ثُمَّ قَالَ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ - زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «احْتَجِبِي مِنْهُ» لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ فَمَا رَآهَا حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ.
وفي مثال آخر، قال البخاري: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ المِعْرَاضِ، فَقَالَ: «إِذَا أَصَبْتَ بِحَدِّهِ فَكُلْ، فَإِذَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَقَتَلَ فَإِنَّهُ وَقِيذٌ فَلاَ تَأْكُلْ».
فَقُلْتُ: أُرْسِلُ كَلْبِي؟ قَالَ: «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَسَمَّيْتَ فَكُلْ» قُلْتُ: فَإِنْ أَكَلَ؟ قَالَ: «فَلاَ تَأْكُلْ، فَإِنَّهُ لَمْ يُمْسِكْ عَلَيْكَ، إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ» قُلْتُ: أُرْسِلُ كَلْبِي فَأَجِدُ مَعَهُ كَلْبًا آخَرَ؟ قَالَ: «لاَ تَأْكُلْ، فَإِنَّكَ إِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى آخَرَ».
وفي مثال آخر، قال البخاري: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَمْرَةٍ فِي الطَّرِيقِ، قَالَ: «لَوْلاَ أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتُهَا».
- وسوسة الصلاة ليست شبهات وعلى المرء البناء على اليقين وترك الشك، قال البخاري في باب: من لم ير الوساوس من الشبهات، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَمِّهِ، قَالَ: شُكِيَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلُ يَجِدُ فِي الصَّلاَةِ شَيْئًا أَيَقْطَعُ الصَّلاَةَ؟ قَالَ: «لاَ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا» وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَفْصَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: «لاَ وُضُوءَ إِلَّا فِيمَا وَجَدْتَ الرِّيحَ أَوْ سَمِعْتَ الصَّوْتَ».
المحاضرة الرابعة: حديث: احفظ الله يحفظك
أ)- نص الحديث:
قال الترمذي: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن أخبرنا أبو الوليد حدثنا ليث بن سعد حدثني قيس بن الحجاج عن حنش الصنعاني عن ابن عباس قال: كنت خلف رسول الله يوما فقال: «يا غلام إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف». قال هذا حديث حسن صحيح.
وفي رواية عند البيهقي: " كنت رديف رسول الله فقال: يا غلام , ألا أعلمك كلمات لعل الله أن ينفعك بهن؟ قلت: بلى, يا رسول الله, قال: احفظ الله يحفظك, احفظ الله تجده أمامك, تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة..."
ب)- تخريج الحديث:
رواه الترمذي، كتاب صفة القيامة والزهد والورع، باب 59، رقم 2516.
ورواه البيهقي،
ج)- ترجمة الرواة.
عبد الله بن عبد الرحمن: بن الفضل بن بهرام السمرقندي أبو محمد الدارمي، الحافظ صاحب المسند، ثقة فاضل متقن، مات سنة مائتين خمس وخمسين، وله أربع وسبعون م د ت.
أبو الوليد الطيالسي: هشام بن عبد الملك الباهلي مولاهم البصري، ثقة ثبت، مات سنة مائتين وسبع وعشرين، وله أربع وتسعون ع.
الليث بن سعد: بن عبد الرحمن الفهمي، أبو الحارث المصري، ثقة ثبت فقيه إمام مشهور، مات في شعبان سنة مائة خمس وسبعين، ع.
قيس بن الحجاج: الكلاعي المصري، صدوق، مات سنة مائة وتسع وعشرين ت.
حنش بن عبد الله: ويقال بن علي بن عمرو السبإي، أبو رشدين الصنعاني، نزيل إفريقية، ثقة، مات سنة مائة، م 4. .
د)- حكم الحديث:
الحديث بهذا الإسناد حسن لحال قيس بن الحجاج، وصححه الترمذي لوروده من طرق أخرى عنده وعند الإمام أحمد.
ه)- شرح المفردات.
- يا غلام: الغلام هو الصبي من حين فطامه إلى أن يكون عمره تسع سنين، وقيل غير ذلك.
- إني أعلمك كلمات: الكلمة في اللغة مجموعة حروف ذات معنى، والمراد هنا ما تضمن نصيحة أو أمرا، كقوله تعالى: "فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه" (البقرة:37)، وقوله: "وإذا بتلى ابراهيم ربه بكلمات فأتمهن" (البقرة:124).
- احفظ الله: يعني احفظ حدوده وحقوقه وأوامره ونواهيه. قال عز و جل: "هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب" (ق:32-33).
- يحفظك: يعني أن من حفظ حدود الله وراعى حقوقه حفظه الله، فإن الجزاء من جنس العمل، كما قال تعالى: "وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم" (البقرة:40)، وقال: "اذكروني أذكركم" (البقرة:152)، وقال: "إن تنصروا الله ينصركم" (محمد:7).
و)- الأحكام والمعاني المستفادة:
- تضمن الحديث نوعان من الحفظ، حفظ العبد لله، وهو رعاية أوامره ونواهيه، من ذلك حفظ الصلاة: قال تعالى: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى" (البقرة:238)، وحفظ الطهارة: قال النبي : "لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن" (ابن ماجة). وحفظ الأيمان: قال الله عز و جل: "واحفظوا أيمانكم" (المائدة:89)، وحفظ الرأس والبطن كما في حديث ابن مسعود: "الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى وتحفظ البطن وما حوى" (رواه أحمد). وقال تعالى: "قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم" (النور:30).
والنوع الثاني: حفظ الله لعبده، يدخل فيه نوعان:
أحدهما: حفظه له في مصالح دنياه كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله، قال الله عز و جل: "له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله" (الرعد:11)، قال ابن عباس: "هم الملائكة يحفظونه بأمر الله فإذا جاء القدر خلوا عنه"، وقال ابن المنكدر: "إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده والدويرات التي حوله فما يزالون في حفظ من الله وستر".
النوع الثاني: حفظ الله للعبد في دينه وإيمانه فيحفظه في حياته من الشبهات المضلة ومن الشهوات المحرمة ويحفظ عليه دينه عند موته فيتوفاه على الإيمان. قال ابن عباس في قوله تعالى: "إن الله يحول بين المرء وقلبه" قال: يحول بين المؤمن وبين المعصية التي تجره إلى النار.
- احفظ الله تجده تجاهك: معناه أن من حفظ حدود الله وراعى حقوقه وجد الله معه في كل أحواله حيث توجه يحوطه وينصره ويحفظه ويوفقه ويسدده: "إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون" (النحل:128). وهذه المعية الخاصة هي المذكورة في قوله تعالى لموسى وهارون: "لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى" (طه:46)، وقول موسى: "كلا إن معي ربي سيهدين" (الشعراء:62)، وفي قول النبي لأبي بكر وهما في الغار: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما"، "لا تحزن إن الله معنا" (التوبة:40).
- تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة: يعني أن العبد إذا اتقى الله وحفظ حدوده وراعى حقوقه في حال رخائه فقد تعرف بذلك إلى الله وصار بينه وبين ربه معرفة خاصة فعرفه ربه في الشدة روعي له تعرفه إليه في الرخاء فنجاه من الشدائد فمعرفة العبد لربه نوعان
أحدهما: المعرفة العامة وهي معرفة الإقرار به والتصديق والإيمان وهو عامة للمؤمنين
والثاني: معرفة خاصة تقتضي ميل القلب إلى الله بالكلية والانقطاع إليه والأنس به والطمأنينة بذكره والحياء منه والهيبة له.
ومعرفة الله أيضا لعبده نوعان
معرفة عامة: وهي علمه تعالى بعباده واطلاعه على ما أسروه وما أعلنوه كما قال: "ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه" (ق:16) ، قال: "هو أعلم بكم إذا أنشأكم من الأرض وإذا أنتم أجنة في بطون أمهاتكم" (النجم:32).
والثاني: معرفة خاصة وهي تقتضي محبته لعبده وتقريبه إليه وإجابة دعائه وإنجائه من الشدائد وهي المشار إليها بقوله فيما يحكي عن ربه: "ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه" (رواه البخاري). وقال الله تعالى عن يونس: "فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون" (الصافات:143-144)، وإن فرعون كان طاغيا ناسيا لذكر الله: "فلما أدركه الغرق قال آمنت": فقال الله تعالى: "ءآلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين" (يونس:90-91).
- إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله: هذا منزع من قوله تعالى: "إياك نعبد وإياك نستعين"، فإن السؤال هو دعاؤه والرغبة إليه والدعاء هو العبادة. ولا يقدر على كشف الضر وجلب النفع سواه، كما قال: "وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله" (يونس:017)، وقال: "ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده" (فاطر:02).
- واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك.
والمراد إنما يصيب العبد في دنياه مما يضره أو ينفعه فكله مقدر عليه ولا يصيب العبد إلا ما كتب له من مقادير ذلك في الكتاب السابق ولو اجتهد على ذلك الخلق كلهم جميعا، وقد دل القرآن على مثل هذا في قوله عز وجل: "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا" (التوبة:51)، وقوله: "ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها" (الحديد:22)، وخرج الإمام أحمد من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي قال: "إن لكل شيء حقيقة وما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وإن ما أخطأه لم يكن ليصيبه" (رواه البزار).
- رفعت الأقلام وجفت الصحف: هو كناية عن تقدم كتابة المقادير كلها والفراغ منها من أمد بعيد، فإن الكتاب إذا فرغ من كتابه ورفعت الأقلام عنه وطال عهده فقد رفعت عنه الأقلام وجفت الأقلام التي كتب بها من مدادها وجفت الصحف التي كتب فيها بالمداد المكتوب به فيها.
وقد دل الكتاب والسنن الصحيحة الكثيرة على مثل هذا المعنى، قال الله تعالى: "ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير"، وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو عن النبي قال: "إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة"، وفيه أيضا عن جابر: أن رجلا قال: يا رسول الله ففيم العمل اليوم، أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما يستقبل؟، قال: لا، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، قال: ففيم العمل؟، قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له". وخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث عبادة بن الصامت عن النبي قال: "إن أول ما خلق الله القلم، ثم قال: اكتب، فكتب في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة". (رواه مسلم).
المحاضرة الخامسة: حديث (من أحدث في أمرنا)
أولا: نص الحديث:
قال البخاري: حدثنا يعقوب بن ابراهيم بن سعد حدثنا إبراهيم بن سعد عن أبيه سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد" رواه عبد الله بن جعفر المخرمي وعبد الواحد بن أبي عون عن سعد بن إبراهيم.
وفي رواية لمسلم (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد).
ثانيا: تخريج الحديث:
أخرجه البخاري في كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود برقم (2697) ومسلم في الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور برقم (1718)
ثالثا: ترجمة الرواة:
يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري أبو يوسف المدني نزيل بغداد ثقة فاضل من صغار التاسعة مات سنة ثمان ومائتين،ع.
إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري أبو إسحاق المدني نزيل بغداد ثقة حجة تكلم فيه بلا قادح من الثامنة مات سنة خمس وثمانين،ع.
سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ولي قضاء المدينة وكان ثقة فاضلا عابدا من الخامسة مات سنه خمس وعشرين وقيل بعدها وهو بن اثنتين وسبعين سنة، ع.
القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق التيمي ثقة أحد الفقهاء بالمدينة قال أيوب ما رأيت أفضل منه من كبار الثالثة مات سنة ست ومائة على الصحيح، ع.
عائشة بنت أبي بكر الصديق أم المؤمنين أفقه النساء مطلقا وأفضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلا خديجة ففيهما خلاف شهير ماتت سنة سبع وخمسين على الصحيح، ع.
رابعا: شرح المفردات:
(من أحدث): الإحداث هو الإبتداع كما فسره النبي بقوله: (وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة) رواه أبو داود والترمذي .
والبدعة: هي كل قول أو فعل محدث نسب إلى الدين وليس له أصل في الكتاب أو السنة أو الإجماع ، قال ابن رجب "والمراد بالبدعة ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه"، وقال أيضا: "فكل من أحدث شيئا ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة والدين منه بريء".
الأمر: هو الدين والشريعة، وفي رواية: من أحدث في شرعنا ما ليس منه فهو رد.
خامسا:
أولا: دل الحديث على أن كل عمل ليس عليه أمر الشرع فهو مردود ويدل بمفهومه على أن كل عمل موافق للشرع فهو مقبول، وقد ورد آثار كثيرة عن الصحابة تبين هذا المعنى، رأى ابن مسعود رضي الله عنه أناسًا جالسين في المسجد ومعهم الحصى، يكبرون مائة ويهللون مائة ويسبحون مائة فوقف عليهم فقال ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا يا أبا عبد الرحمن حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح. قال فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء. ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة نبيكم متوافرون وهذه ثيابه لم تبل وآنيته لم تكسر. والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد أو مفتتحو باب ضلالة. قالوا والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير. قال وكم من مريد للخير لن يصيبه (رواه الدارمي).
ثانيا: إذا اعتبرنا البدعة فعل ما لم يدل عليه نص أو أصل في الدين فلا يستقيم إطلاق وصف البدعة الحسنة على بعض الاجتهادات الموافقة للشرع، وأما قول الخليفة عمر رضي الله عنه لما رأى الصحابة اجتمعوا على إمام واحد في صلاة التراويح وكانوا يصلون أوزاعا قال: "نعمت البدعة هذه"، فمحمول على معنى البدعة اللغوي وليس مراده المعنى الشرعي للبدعة.
وما فعله عمر غير مخالف للشرع فقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى صلاة الليل في رمضان فصلى رجال بصلاته ثم فعل ذلك الليلة الثانية والثالثة ثم ترك ذلك في الرابعة وقال: إني خشيت أن تفرض عليكم.
كما أن اجتهاد عمر معتبر شرعا مالم يخالف كتابا أو سنة كما أوصى بذلك النبي (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الر اشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ).
ثالثا: لا تجري البدعة على ما كان من الشؤون الدنيوية الخالصة في حياة الناس، فهذه جائزة ما لم يدل دليل على تحريمها، والأصل في العبادات الحظر إلا ما دل الشرع على فعله، والأصل في العادات الحل إلا ما دل الشرع على منعه.
رابعا: هناك فرق ظاهر بين البدعة والمصلحة المرسلة ، فالبدعة تكون في الأمور التعبدية ويقصد بها التقرب إلى الله وليس لها أصل في الشرع لا في جنسها ولا في عينها، أما المصلحة المرسلة فتكون في الوسائل ولا يقصد التعبد بها وقد دل الشرع على اعتبار جنسها وليس فيها مخالفة للشرع ومنافاة لمقاصده كاتخاذ عمر رضي الله عنه الديوان وجمع عثمان رضي الله عنه القرآن وبناء المسلمين المدارس والأربطة ونحو ذلك مما ظهرت مصلحته ودعت الحاجة إليه ولم يقم مقتضاه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن يقصد به التعبد.
خامسا: البدعة على أنواع:
1- بدعة في الإعتقاد: كاعتقاد علم الغيب لأحد من الخلق أو أن هناك أبدالا يتصرفون في الكون أو أن الكون خلق من نور محمد ونحو ذلك مما تعلق بأصول الدين كأسماء الله وصفاته وأفعاله والنبيين والغيب .
2- بدعة في العبادة: كابتداع صلوات وأذكار وأوراد وأدعية وأعياد على هيئة غير مشروعة كصلاة الرغائب والمولد النبوي ويوم وليلة الإسراء والمعراج وأعمال رجب وغير ذلك مما يتعلق بالعبادات.
3- بدعة في السلوك: كالتقرب إلى الله بتحريم الحلال وتحليل الحرام كالإمتناع عن لبس ناعم الثياب والزواج وأكل اللحم والتنعم بالمباحات، والتقرب إلى الله بإستماع المعازف والنظر إلى المردان وغير ذلك مما يتعلق بالسلوك.
سادسا: من أحدث بدعة ودعى الناس إليها فعليه وزرها و وزر من عمل بها إلى يوم القيامة ، ومن دعى الناس إلى سنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها و وزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا) رواه مسلم.
المحاضرة السادسة: حديث "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه".
أولا: نص الحديث.
قال الترمذي: حدثنا أحمد بن نصر النيسابوري وغير واحد قالوا: حدثنا أبو مسهر عن إسماعيل بن عبد الله بن سماعة عن الأوزاعي عن قرة عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : "من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه".
ثانيا: تخريج الحديث.
رواه الترمذي، كتاب الزهد، رقم 2317. ورواه مالك في الموطأ، كتاب الجامع، باب ما جاء في حسن الخلق، رقم 3352.
ثالثا: ترجمة الرواة.
أحمد بن نصر بن زياد النيسابوري الزاهد المقرىء أبو عبد الله بن أبي جعفر ثقة فقيه حافظ من الحادية عشرة مات سنة خمس وأربعين ت س.
عبد الأعلى بن مسهر الغساني أبو مسهر الدمشقي ثقة فاضل من كبار العاشرة مات سنة ثماني عشرة وله ثمان وسبعون سنة ع.
إسماعيل بن عبد الله بن سماعه العدوي مولى آل عمر الرملي وقد ينسب إلى جده ثقة قديم الموت من الثامنة د ت س.
عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو الأوزاعي أبو عمرو الفقيه ثقة جليل من السابعة مات سنة سبع وخمسين ع.
قرة بن عبد الرحمن بن حيويل بمهملة مفتوحة ثم تحتانية وزن جبريل المعافري المصري يقال اسمه يحيى صدوق له مناكير من السابعة مات سنة سبع وأربعين م 4.
محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب القرشي الزهري أبو بكر الفقيه الحافظ متفق على جلالته وإتقانه وهو من رؤوس الطبقة الرابعة مات سنة خمس وعشرين وقيل قبل ذلك بسنة أو سنتين ع.
أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني قيل اسمه عبد الله وقيل إسماعيل ثقة مكثر من الثالثه مات سنة أربع وتسعين أو أربع ومائة وكان مولده سنة بضع وعشرين ع.
أبو هريرة الدوسي الصحابي الجليل حافظ الصحابة اختلف في اسمه واسم أبيه قيل عبد الرحمن بن صخر، مات سنة سبع وقيل سنة ثمان وقيل تسع وخمسين وهو بن ثمان وسبعين سنة ع.
رابعا: حكم الحديث.
قال الترمذي: قال هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي إلا من هذا الوجه.
حدثنا قتيبة حدثنا مالك بن أنس عن الزهري عن علي بن حسين قال : قال رسول الله : إن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
قال أبو عيسى: وهكذا روى غير واحد من أصحاب الزهري عن الزهري عن علي بن حسين عن النبي نحو حديث مالك مرسلا، وهذا عندنا أصح من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة، و علي بن حسين لم يدرك علي ابن أبي طالب.
ورواه عبد الله بن عمر العمري عن علي بن حسين عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و سلم فوصله وجعله من مسند الحسين بن علي، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده من هذا الوجه والعمري ليس بالحافظ.
خامسا: أهمية الحديث.
قال أبو بكر بن داسة: سمعت أبا داود يقول: كتبت عن رسول الله خمس مئة ألف حديث انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب يعني كتاب " السنن " جمعت فيه أربعة آلاف حديث وثماني مئة حديث ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث أحدها قوله "الأعمال بالنيات" . والثاني "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" . والثالث قوله: " لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه" . والرابع " الحلال بين".
سادسا: شرح المفردات.
"من" تبعيضية، أي هناك ما يحسن به الإسلام غير ما ذكر.
"حسن": أي كماله وتمامه.
"الإسلام": الإذعان والخضوع لأمر الله.
"تركه": الابتعاد والتنزه.
"ما لا يعنيه": ما لا يفيده في دنياه وآخرته، ولا علاقة له به.
سابعا: الأحكام المستفادة.
أولا: دل الحديث على أن الإسلام مراتب ودرجات، تتفاوت بمقدار ما يأتي المسلم من خصاله.
ثانيا: من دواعي النهي عن الاشتغال بالغير، مما له أثر في دين المرء أمور منها:
- إفساد القلب بالتعلق بالدنيا وإثارة الحسد.
- أنه يؤدي بالإنسان إلى التجسس والغيبة. ولقد حذرنا الله تعالى من ذلك فقال : "يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ" (سورة الحجرات:12) .
عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ الْمِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ مَنْ قَدْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ لاَ تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ وَلاَ تُعَيِّرُوهُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ في جَوْفِ رَحْلِهِ".
- أنه يؤدي بالإنسان إلى قساوة القلب ووهن البدن وتعسير الرزق :
- أنه يجلب الضرر والأذى لنفس صاحبه. يقول ابن عباس رضي الله عنهما : لا تتكلم فيما لا يعنيك فإنه فضل ولا آمن عليك الزور ولا تتكلم فيما يعنيك حتى تجد له موضعا فرب متكلم في أمر يعنيه قد وضعه في غير موضعه فأعنته. وقال الإِمامُ الشافعيُّ رحمه اللّه لصاحبه الرَّبِيع : يا ربيعُ ! لا تتكلم فيما لا يعنيك، فإنك إذا تكلَّمتَ بالكلمة ملكتكَ ولم تملكها .
ثالثا: الضابط في معرفة المرء ما يعنيه وما لا يعنيه هو الشرع المطّهر، ومن ذلك ما كان من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ)، ومما يعني المسلم بدرجة كبيرة من شؤون الآخرين: شؤون المسلمين وقضاياهم في أي بلد كان، ومن أية جنسية كانوا، فإن: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا)، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى).
رابعا: بين النووي في رياض الصالحين ما يستثنى بالجواز في الاشتغال بالغير، فقال: "اعلم أن الغيبة تباح لغرض صحيح شرعي لا يمكن الوصول إليه إلا بها وهو ستة أسباب:
الأول: التظلم فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان والقاضي وغيرهما ممن له ولاية أو قدرة على إنصافه من ظالمه فيقول : ظلمني فلان بكذا
الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى الصواب فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر: فلان يعمل كذا فازجره عنه ونحو ذلك، ويكون مقصوده التوصل إلى إزالة المنكر فإن لم يقصد ذلك كان حراما.
الثالث: الاستفتاء فيقول للمفتي : ظلمني أبي أو أخي أو زوجي أو فلان بكذا فهل له ذلك ؟ وما طريقي في الخلاص منه وتحصيل حقي ودفع الظلم ؟ ونحو ذلك فهذا جائز للحاجة؛ ولكن الأحوط والأفضل أن يقول: ما تقول في رجل أو شخص أو زوج كان من أمره كذا ؟ فإنه يحصل به الغرض من غير تعيين.
الرابع: تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم وذلك من وجوه منها: جرح المجروحين من الرواة والشهود وذلك جائز بإجماع المسلمين بل واجب للحاجة.
ومنها: المشاورة في مصاهرة إنسان أو مشاركته أو إيداعه أو معاملته أو غير ذلك، أو مجاورته ويجب على المشاور أن لا يخفي حاله بل يذكر المساوئ التي فيه بنية النصيحة.
ومنها: إذا رأى متفقها يتردد إلى مبتدع أو فاسق يأخذ عنه العلم وخاف أن يتضرر المتفقه بذلك فعليه نصيحته ببيان حاله بشرط أن يقصد النصيحة، وهذا مما يغلط فيه وقد يحمل المتكلم بذلك الحسد ويلبس الشيطان عليه ذلك ويخيل إليه أنه نصيحة فليتفطن لذلك.
ومنها: أن يكون له ولاية لا يقوم بها على وجهها إما بأن لا يكون صالحا لها، وإما بأن يكون فاسقا أو مغفلا ونحو ذلك فيجب ذكر ذلك لمن له عليه ولاية عامة ليزيله ويولي من يصلح أو يعلم ذلك منه ليعامله بمقتضى حاله ولا يغتر به وأن يسعى في أن يحثه على الاستقامة أو يستبدل به.
الخامس: أن يكون مجاهرا بفسقه أو بدعته كالمجاهر بشرب الخمر ومصادرة الناس، وأخذ المكس وجباية الأموال ظلما وتولي الأمور الباطلة فيجوز ذكره بما يجاهر به ويحرم ذكره بغيره من العيوب إلا أن يكون لجوازه سبب آخر مما ذكرناه.
السادس: التعريف فإذا كان الإنسان معروفا بلقب كالأعمش والأعرج والأصم والأعمى والأحول وغيرهم جاز تعريفهم بذلك، ويحرم إطلاقه على جهة التنقص، ولو أمكن تعريفه بغير ذلك كان أولى.
فهذه ستة أسباب ذكرها العلماء وأكثرها مجمع عليه . ودلائلها من الأحاديث الصحيحة المشهورة".
ثم ذكر النووي أدلة ذلك، قال: "ودليل جواز إباحة الغيبة للمتظلم قوله تعالى : "لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا" (النساء:148).
ومن أدلة جواز ذلك في التعريف حديث: فقام رجل يقال له ذو اليدين.
وأما المجاهر بالفسق فدليل جواز غيبته قوله " ما أظن فلانا وفلانا يعرفان من ديننا شيئ". رواه البخاري.
وأما المستفتي فدليله حديث هند وقولها للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان رجل شحيح.
وأما المستعين على إزالة المنكر فدليله حديث زيد بن أرقم قال: خرجنا مع رسول الله في سفر أصاب الناس فيه شدة فقال عبد الله بن أبي: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا، وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فأتيت رسول الله فأخبرته بذلك فأرسل إلى عبد الله بن أبي فاجتهد يمينه ما فعل، فقالوا : كذب زيد رسول الله فوقع في نفسي مما قالوه شدة حتى أنزل الله تعالى تصديقي: {إذا جاءك المنافقون} ( المنافقين: 1) ثم دعاهم النبي ليستغفر لهم فلووا رؤوسهم. متفق عليه. والله أعلم".
المحاضرة السابعة: حديث النهي عن المنكر
أولا: نص الحديث.
قال الإمام مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن سفيان ح وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة كلاهما عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب وهذا حديث أبي بكر أَوَّلُ مَن بَدَأَ بالخُطْبَةِ يَومَ العِيدِ قَبْلَ الصَّلاةِ مَرْوانُ. فَقامَ إلَيْهِ رَجُلٌ، فقالَ: الصَّلاةُ قَبْلَ الخُطْبَةِ، فقالَ: قدْ تُرِكَ ما هُنالِكَ، فقالَ أبو سَعِيدٍ: أمَّا هذا فقَدْ قَضَى ما عليه سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ يقولُ: "مَن رَأَى مِنكُم مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بيَدِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسانِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وذلكَ أضْعَفُ الإيمانِ".
ثانيا: تخريج الحديث.
رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان وأن الإيمان يزيد وينقص وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان، رقم 49.
ثالثا: ترجمة الرواة.
عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الواسطي الأصل أبو بكر بن أبي شيبة الكوفي ثقة حافظ صاحب تصانيف من العاشرة مات سنة خمس وثلاثين، خ م د س ق.
وكيع بن الجراح بن مليح الرؤاسي بضم الراء وهمزة ثم مهملة أبو سفيان الكوفي ثقة حافظ عابد من كبار التاسعة مات في آخر سنة ست وأول سنة سبع وتسعين وله سبعون سنة، ع.
سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري أبو عبد الله الكوفي ثقة حافظ فقيه عابد إمام حجة من رؤوس الطبقة السابعة وكان ربما دلس مات سنة إحدى وستين وله أربع وستون، ع.
محمد بن المثنى بن عبيد العنزي بفتح النون والزاي أبو موسى البصري المعروف بالزمن مشهور بكنيته وباسمه ثقة ثبت من العاشرة وكان هو وبندار فرسي رهان وماتا في سنة واحدة، ع.
محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب القرشي الزهري أبو بكر الفقيه الحافظ متفق على جلالته وإتقانه وهو من رؤوس الطبقة الرابعة مات سنة خمس وعشرين وقيل قبل ذلك بسنة أو سنتين، ع.
شعبة بن الحجاج بن الورد العتكي مولاهم أبو بسطام الواسطي ثم البصري ثقة حافظ متقن كان الثوري يقول هو أمير المؤمنين في الحديث وهو أول من فتش بالعراق عن الرجال وذب عن السنة وكان عابدا من السابعة مات سنة ستين، ع.
قيس بن مسلم الجدلي بفتح الجيم أبو عمرو الكوفي ثقة رمي بالإرجاء من السادسة مات سنة عشرين ع.
طارق بن شهاب بن عبد شمس البجلي الأحمسي أبو عبد الله الكوفي قال أبو داود رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه مات سنة اثنتين أو ثلاث وثمانين، ع.
سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الأنصاري أبو سعيد الخدري له ولأبيه صحبة واستصغر بأحد ثم شهد ما بعدها وروى الكثير مات بالمدينة سنة ثلاث أو أربع أو خمس وستين وقيل سنة أربع وسبعين،ع.
رابعا: روايات أخرى للحديث.
في رواية البخاري: عن أبي سعيد الخدري قال كان رسول الله يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول شيء يبدأ به الصلاة ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس جلوس على صفوفهم فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم فإن كان يريد أن يقطع بعثا قطعه أو يأمر بشيء أمر به ثم ينصرف. قال أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان وهو أمير المدينة في أضحى أو فطر فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي فجبذت بثوبه فجبذني فارتفع فخطب قبل الصلاة فقلت له غيرتم والله فقال أبا سعيد قد ذهب ما تعلم فقلت ما أعلم والله خير مما لا أعلم فقال إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة فجعلتها قبل الصلاة.
في رواية الترمذي قال : فقام رجل فقال : يا مروان ، خالفت السنة. فقال : يا فلان ، ترك ما هنالك. وفي رواية أبي داود: قال: يا مروان ، خالفت السنة ، أخرجت المنبر في يوم عيد، ولم يكن يخرج فيه، وبدأت بالخطبة قبل الصلاة ، فقال أبو سعيد: من هذا؟ قالوا : فلان ابن فلان ، فقال : أما هذا فقد قضى ما عليه... وذكر الحديث. وفي رواية النسائي، لم يذكر العيد والخطبة ، وهذا لفظه : أن رسول الله قال: «من رأى منكم منكرا فغيره فقد برئ ، ومن لم يستطع أن يغيره بيده ، فغيره بلسانه فقد برئ ، ومن لم يستطع أن يغيره بلسانه فغيره بقلبه فقد برئ ، وذلك أضعف الإيمان».
خامسا: شرح الحديث.
- في هذا الحديثِ يُخبِرُ التَّابعيُّ طارقُ بنُ شِهابٍ أنَّ أوَّلَ مَن قدَّمَ الخُطبةَ يومَ العيدِ فجَعَلَها قبلَ الصَّلاةِ، هو مَروانُ بنُ الحكَمِ، وكانَ واليًا على المدينةِ من قِبَلِ الخليفةِ مُعاويةَ بنِ أبي سُفيانَ رَضيَ اللهُ عنهما، ثُمَّ وَلِيَ الخلافةَ العامَّةَ في آخِرِ سَنةِ أربعٍ وسِتِّينَ، وقد ذُكِرَ أنَّ أوَّلَ مَن بدأ بالخُطبةِ قبلَ الصَّلاةِ عُثمانُ رَضيَ اللهُ عنه، وقيلَ: عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه، وقيلَ: مُعاويةُ رَضيَ اللهُ عنه، وقيلَ: عبدُ اللهِ بنُ الزُّبيرِ رَضيَ اللهُ عنهما، وذلك غيرُ صحيحٍ، فلم يَفعَله أحدٌ منَ الخُلفاءِ، بَلِ الذي ثَبَتَ عنِ النَّبيِّ ، وأبي بَكرٍ، وعُمَرَ، وعُثمانَ، وعليٍّ رَضيَ اللهُ عنهم جميعًا تَقديمُ الصَّلاةِ، كما في الصَّحيحَينِ من حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما: «شَهِدْتُ العِيدَ معَ رَسولِ اللهِ ، وأبِي بَكْرٍ، وعُمَرَ، وعُثْمانَ رَضِيَ اللهُ عنْهُم، فكُلُّهُم كانوا يُصَلُّونَ قبْلَ الخُطْبةِ».
وسببُ تَقديمِ مَروانَ الخُطبةَ قبلَ الصَّلاةِ ما جاءَ في روايةِ البُخاريِّ أنَّ مَروانَ قالَ: «إنَّ النَّاسَ لم يَكُونوا يَجلِسُونَ لنا بعدَ الصَّلاةِ، فجَعَلتُها قبْلَ الصَّلاةِ»، أي: كانُوا يَفترِقونَ بعدَ الصَّلاةِ، فلا يَبقى للخُطبةِ إلَّا القَليلُ، فبَدأ بالخُطبةِ قبلَ الصَّلاةِ؛ لئلَّا يَذهَبَ أحدٌ حتَّى تَتِمَّ الخُطبةُ والصَّلاةُ، ولعلَّ مَروانَ فَعَلَ ذلك ظنًّا منه أنَّ ذلك ممَّا يُجتهَدُ فيه. فلمَّا خالَفَ مَروانُ بنُ الحَكمِ السُّنَّةَ والثَّابتَ عن رسولِ اللهِ ، قَامَ إليه رجلٌ مِنَ الحاضرينَ، مُنكِرًا عليه تَغييرَه السُّنَّةَ، وأنَّه جَعَلَ الخُطبةَ قبلَ الصَّلاةِ، قيلَ: إنَّ هذا الرَّجلَ هو أبو مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه، كما في روايةِ عبدِ الرَّزَّاقِ، وقد وَقَعَ في روايةِ البُخاريِّ أنَّ الذي أنكَرَ على مَروانَ هو أبو سعيدٍ نفسُه، ويَحتمِلُ أنَّ القِصَّةَ وقَعَت أكثَرَ من مَرَّةٍ، وفي كلِّ مَرَّةٍ يَجِدُ مَروانُ مَن يُنكِرُ عليه، وإن كانت قِصَّةً واحِدةً فيَحتمِلُ أنَّ أبا سَعيدٍ لمَّا أخذَ بيَدِ مَروانَ وردَّ عليه -كما عندَ البُخاريِّ- قامَ إليه ذلك الرَّجلُ -أبو مسعودٍ- وعَضَدَه بقَولِه: «الصَّلاةُ قبْلَ الخُطبةِ»، فردَّ عليه مَروانُ بمِثلِ ما ردَّ به على أبي سعيدٍ، فعضَدَه أبو سعيدٍ ثانيًا، فقالَ مَروانُ مُعتذِرًا عن ذلكَ: «قدْ تُرِكَ ما هنالِكَ»، أي: تَرَكَ الناسُ استِماعَ الخُطبةِ إذا أخَّرناها عنِ الصَّلاةِ لاستِعجالِهم، ويَحتمِلُ أنَّ المعنى: قد تَرَكنا العملَ بتَقديمِ الصَّلاةِ على الخُطبةِ الذي كان هُنالك في الزَّمنِ الماضي.
فأقرَّ أبو سعيدٍ رَضيَ اللهُ عنه الرَّجلَ على إنكارِه لمَروانَ، وقالَ لِمَن حولَهُ: «أمَّا هذا» يَقصِدُ الرَّجلَ الذي أنكَرَ، «فقدْ قَضى ما عليه»، أي: قد أدَّى ما وجَبَ عليه مِنَ النَّهيِ عنِ المُنكَرِ بلسانِه، حيثُ لا يَستطيعُ الإنكارَ بيدِه؛ لكَونِ مَروانَ هو الأميرَ، ثُمَّ قالَ أبو سعيدٍ رَضيَ اللهُ عنه: «سَمِعتُ رَسولَ اللهِ يقولُ: مَن رَأى مِنكمْ»، أي: عَلِمَ وعرَفَ مِنكم أيُّها الأُمَّةُ،
«مُنكَرًا»، وهو كلُّ أفعالِ الشَّرِّ والعِصيانِ، وما خالَفَ الشَّرعَ، فليُزِل ذلك المُنكَرَ
«بِيَدِهِ» إن كانَ له قوَّةٌ وسُلطةٌ ويَحتاجُ إلى إزالتِها باليد، وجاءت نصوص كثيرة تنبّه المؤمنين على وجوب قيامهم بمسؤوليتهم الكاملة تجاه رعيتهم، فقد روى الإمام البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه سمع رسول الله يقول: (كلكم راع ومسؤول عن رعيته ، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل في أهله راع وهو مسؤول عن رعيته ، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها ، والخادم في مال سيده راع وهو مسؤول عن رعيته ، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيّته ).
«فإنْ لم يَستطِعْ» بيَدِه فليُزِلِ المُنكَرَ بلِسانِهِ، وذلكَ بالوَعظِ والتَّذكيرِ؛ وقد يقتضي المقام التصريح والتعنيف ، ولهذا جاءت في السنة أحداث ومواقف كان الإنكار فيها علناً ، كإنكار النبي على أسامة بن زيد شفاعته في حد من حدود الله ، وإنكاره على من لبس خاتم الذهب من الرجال، وغير ذلك مما تقتضي المصلحة إظهاره أمام الملأ.
فإن لم يَستطِع تَغييرَ المُنكَرِ بالقولِ واللِّسانِ، فليُنكِرْه وليَكرَهْه بقلبِه ويَعزِمْ أنَّه لو قدَرَ على إزالتِه لَفَعَلَ، «وذلكَ» أيِ: التَّغييرُ بالقلبِ «أضعَفُ الإيمانِ»، أي: أدنى خِصالِ الإيمانِ في إزالةِ المُنكَرِ، يَعني أنَّ تَغييرَ المُنكَرِ بقلبِه -وهو إنكارُه- آخِرُ خَصلةٍ منَ الخِصالِ المُتعيِّنةِ على المؤمِنِ في تَغييرِ المُنكَرِ، فلم يَبقَ بعدَها للمُؤمِنِ مَرتبةٌ أُخرى في تَغييرِه، ولذلك قالَ في روايةِ ابنِ مسعودٍ عندَ مُسلِمٍ: «وليسَ وراءَ ذلك منَ الإيمانِ حَبَّةُ خَردلٍ»،
- ظَهَرَ من هذا الحديثِ أنَّ من شَرطِ وُجوبِ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عنِ المُنكَرِ أمرَين؛ أحدُهما: العِلمُ بكَونِ ذلك الفعلِ معروفًا أو مُنكَرًا؛ لأنَّ ذلك لا يتأتَّى للجاهلِ. والثَّاني: القُدرةُ عليه؛ لأنَّه قالَ: «فإنْ لم يَستطِعْ...» إلخ، فدلَّ على أنَّ غيرَ المُستطيعِ لا يَجِبُ عليه، وإنَّما عليه أن يُنكِرَ بقلبِه.
- في الحديثِ: الأمرُ بالتَّدرُّجِ في الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عنِ المُنكَرِ، كلٌّ بحسَبِ استطاعتِه وقُدراتِه.
- وفيه: مَشروعيَّةُ الإنكارِ على وُلاةِ الأُمورِ إذا لم تَحدُث مَضرَّةٌ وكانوا يَقبَلونَ النَّصيحةَ في العلَنِ.
- وفيه: بيانُ كونِ تَغييرِ المُنكَرِ منَ الإيمانِ.
- وفيه: بيانُ أنَّ الإيمانَ يَزيدُ ويَنقُصُ.
- وفيه: أنَّ سُنَنَ الإسلامِ والعِباداتِ لا يَجوزُ تَغييرُ شيءٍ منها ولا من تَرتيبِها، وأنَّ ذلك مُنكَرٌ يَجِبُ تَغييرُه بإنكارِه ولو على المُلوكِ إذا قُدِرَ عليه ولم يَدعُ إلى مُنكَرٍ أكثَرَ منه..
- Enseignant: HADJMAHAMMED KACEM
- Enseignant: MAACHE LEILA